في أحد الأيام، قد تأخذ بعض الوقت للاسترخاء وتشاهد أحد أفلام نيتفكلس ثم تقدم بعد ذلك على قيادة سيارتك إلى العمل لتجلس داخل ناطحة سحاب ذات إطار فولاذي لتؤدي مهام عملك. وقد يتبادر إلى ذهنك ما هو القاسم المشترك بين كل ذلك لتكون الإجابة: الوقود الأحفوري.
فمن العمليات الصناعية التي تنتج الفولاذ والإسمنت وحتى تزويد المنازل بالطاقة الكهربائية، يعتمد البشر على النفط والفحم والغاز في تلبية أكثر من 80 بالمائة من احتياجاتهم من الطاقة حول العالم.
لكن عملية احتراق الوقود الأحفوري تساهم في 75 بالمائة من انبعاثات الغازات الدفيئة التي تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب وزيادة متوسط درجات الحرارة العالمية والمساهمة في زيادة وتيرة وضراوة ظواهر الطقس المتطرفة حول العالم.
ويقول العلماء: من أجل الالتزام بالهدف الذي نصت عليه اتفاقية باريس والمتمثل في منع درجة الحرارة العالمية من الارتفاع أكثر من 1,5 درجة مئوية، فإنه يجب على بلدان العالم خفض الانبعاثات بنسبة 43 بالمائة بحلول عام 2030 ما يمهد الطريق أمام الحد من استخدام الوقود الأحفوري والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة.
يُشار إلى أنه كان هناك جدل وخلاف كبير في محادثات مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ “كوب 28” بشأن الدعوة إلى التخلص من استخدام الوقود الأحفوري وتضمين ذلك في مقررات المؤتمر.
وفي السياق ذاته، حث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الدول على التوافق من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي، قائلا: “يتمثل أحد العناصر المهمة لإنجاح قمة المناخ “COP 28″ في توصل الدول إلى اتفاق بشأن الحاجة إلى التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، وإن كان ذلك مع احتمال تحرك الدول بمعدلات مختلفة.”
وتنص المسودة الجديدة للاتفاق النهائي لمؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ التي نشرتها الرئاسة الإماراتية للمؤتمر على الدعوة إلى “خفض استهلاك وإنتاج الوقود الأحفوري” المسؤول عن القسم الأكبر من الانبعاثات الملوثة المسببة للاحترار العالمي.
ويدعو النص بشكل خاص إلى ” خفض استهلاك الوقود الأحفوري واستهلاكه في الوقت نفسه بطريقة عادلة ومنظمة ومنصفة، على نحو يتيح الوصول إلى صافي الصفر (الحياد الكربوني) من الآن وحتى سنة 2050 وحواليها وقبل ذلك، بناء على ما يوصي به العلم”.
هل بإمكان البشر التخلي عن الوقود الأحفوري؟
بدورها، ترى ناتالي جونز، مستشارة سياسات الطاقة في المعهد الدولي للتنمية المستدامة، إنه من الممكن “التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، سواء على المستوى العالمي أو على مستوى الدول”. وأضافت في مقابلة مع المانيا اليوم، أن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ووكالة الطاقة الدولية الحكومية الدولية قد وضعتا “خارطة طريق على المستوى العالمي” بهدف تصفير انبعاثات الغازات الدفيئة بحلول عام 2050.
ويقول المحللون والعلماء إن البشر يمتلكون التكنولوجيا القادرة على المساهمة في تحقيق هذا الهدف. وقالت راشيل كليتوس، مديرة السياسات في برنامج المناخ التابع لاتحاد العلماء المعنيين بمواجهة تغير المناخ، إنه “يمكننا أن نشرع بالتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري عن طريق التخفيض التدريجي خلال العقد الجاري. ونؤمن بإمكانية تحقيق هذا الأمر على أرض الواقع بداية من اليوم”. وأضافت “نشهد في الوقت الراهن زيادة في استخدام الطاقة المتجددة بمعدلات قياسية ونشهد تصنيع سيارات كهربائية مع خفض تكاليف تخزين الطاقة على أساس سنوي”.
ورغم أن حصة الوقود الأحفوري مازالت تمثل نحو 80 بالمائة من مزيج الطاقة العالمي، إلا أن حصة مصادر الطاقة المتجددة تزداد بوتيرة أسرع من أي وقت مضى مع انخفاض التكلفة. إذ خلال العشر سنوات الماضية، انخفضت تكلفة الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية بنسبة 90 بالمائة تقريبا، ومن طاقة الرياح بنسبة 69 بالمائة ما يعني أن التكلفة وصلت إلى أقل من نصف تكلفة أرخص أنواع الوقود الأحفوري.
وفي ذلك، قالت كليتوس: إن الصناعات التي يصعب إزالة الكربون منها لا سيما الصلب والاسمنت والطيران، تحتاج إلى المزيد من الحلول الابتكارية والبحثية، مضيفة أنه لا ينبغي استخدام هذه الصناعات كذريعة للتقاعس عن العمل.
وقالت وكالة الطاقة الدولية إن فجوة تحقيق صافي الانبعاثات بحلول عام 2050 تضيق، لكن مازال الأمر قريب المنال في حالة اتخاذ إجراءات فورية لتوسيع تكنولوجيا الطاقة النظيفة بشكل شمولي وفعال إذ تعول الوكالة أيضا على تقنيات مثل احتجاز الكربون وتخزينه وأيضا توسيع الاعتماد على الهيدروجين الأخضر في المستقبل.
المال والسياسة..أبرز العوائق!
وقال أوريليان سوساي، الأستاذ المساعد في الاقتصاد البيئي بمعهد غرانثام في جامعة إمبريال كوليدج لندن، “لدينا القدرة التكنولوجية لتحقيق ذلك أو نتوقع أن نصل إلى هذا المسار خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة، لكن لم نصل إلى مستوى الالتزام السياسي والمستوى الاستثماري بعد”.
وقد كشف تحليل أُجري العام الجاري شمل 63 من أكبر الاقتصادات في العالم والمسؤولة إجمالا عن 90 بالمائة من الانبعاثات العالمية، عن أنه لم تقدم أي دولة على فعل ما يكفي لتجنب أسوأ تداعيات تغير المناخ. وكشف تقييم أجرته الأمم المتحدة بشأن الخطط المناخية للدول، أن البشر لا يزالون بعيدين عن “مسار” الوفاء بالتزاماتهم بالحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى 1,5 درجة مئوية.
ففي الوقت الذي جرى ضخ استثمارات بقرابة 1,8 تريليون دولار في مصادر الطاقة النظيفة في عام 2023، فإن مسار تحقيق صافي الانبعاثات يتطلب زيادة هذا المعدل إلى أكثر من 4,5 تريليون دولار.
ويقول الباحثون والناشطون أيضا إنه إلى جانب زيادة الموارد المالية، فإنه يجب توزيعها بشكل أكثر عدالة. وقالت كيلي تروت، مسؤولة قسم الأبحاث في منظمة “أويل تشينج إنترناشونال” غير الحكومية ومقرها الولايات المتحدة، إن هناك حاجة إلى إحداث تغيير منهجي في الهياكل المالية على مستوى العالم لزيادة الوصول إلى الأموال المخصصة للطاقة النظيفة في البلدان الفقيرة. وأضافت “تحتاج بلدان الجنوب العالمي إلى أن تكون قادرة على تجاوز الوقود الأحفوري وبناء نموذج للتنمية المستدامة بما يصب في صالح الشعوب والمجتمعات”.
ضرورة تحرك البلدان الغنية
من جابنه، يؤكد ستيف باي، الأستاذ المساعد في أنظمة الطاقة بجامعة كوليدج لندن، أن مفتاح عملية تحقيق التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري يتمثل في ضمان أن يكون انتقالا عادلا صوب الطاقة النظيفة. ويتساءل “كيف يبدو التخلص التدريجي عادلا؟”، فيما كانت إجابة باي على التساؤل الذي طرحه مفادها أن “الأمر يتعلق بالدول الغنية الأقل اعتمادا (على الوقود الأحفوري) وتمتلك اقتصادات كبيرة حيث يجب أن تتولى دورا قياديا”. وأضاف “مازال الاقتصاد السياسي يُصعب الأمور،” متابعا أنه من الصعب الوقوف على المسار الذي تسلكه والتقدم الذي تحققه بعض البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري مثل العراق الذي يعتمد على صادراته من النفط بنسبة 80 بالمئة لبناء موازنته، فمثل هذه الدول تحتاج إلغاء تدريجي للوقود الأحفوري لتحقيق هدف عدم تجاوز الاحترار 1,5 درجة مئوية.
وقالت تروت إن العائق الرئيسي أمام تحقيق التخلص التدريجي في الوقود الأحفوري في البلدان الغنية يتمثل في عدم وجود “إرادة سياسية للوقوف في وجه صناعة الوقود الأحفوري”، مضيفة إذا التزم القادة بالتخلص التدريجي في النص النهائي لمؤتمر “كوب 28″، فإن هذا يعني أنه يتعين على الحكومات البدء في فرض حظر فوري على تراخيص الوقود الأحفوري الجديدة وتصاريح البنية التحتية الجديدة للوقود الأحفوري.
من جانبه، قال باي “من وجهة نظر التكنولوجيا والعلم، فإن هناك الكثير من بواعث الأمل “، مضيفا أنه يمكن إزالة الكربون من أنظمة الطاقة بطريقة فعالة واقتصادية في الوقت ذاته”. لكنه شدد على أن “الأمر يتعلق بضخ الاستثمارات في المكان المناسب وتوسيع نطاقها. وهذا ما يعزز شعوري بالأمل بأنه يمكننا النجاح”.
أعده للعربية: محمد فرحان