في مدينة إيسن غربي ألمانيا، يقف هانز بيتر نول على سطح منجم فحم، بات مهجورا في الوقت الراهن، حيث ينظر إلى إرث والده وأجداده حيث كان أسلافه يعملون في قطاع الفحم، لكن نول قرر طي هذه الصفحة بإغلاق المناجم.
ويرأس نول في الوقت الراهن مؤسسة تمثل “زيتشي زولفيرين” التي كانت في السابق واحدة من أكبر مناجم الفحم في أوروبا، لكنه قرر قبل وقت طويل الشروع في تحويلها بعيدا عن الفحم حيث توقفت شركة “حوض الرور” عن عمليات الحفر بشكل تدريجي على مدى أكثر من 40 عاما.
بيد أن العالم يبدو أنه لا يملك رفاهية الوقت على النقيض من هانز إذ يتعين على بلدان العالم التحرك لمواجهة تغير المناخ.
فمن دون توقف الانبعاثات الصادرة عن محطات توليد الطاقة العاملة بالفحم، فإن العالم لا يسلك المسار الصحيح لتحقيق هدف اتفاقية باريس لمنع درجة الحرارة العالمية من تجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة.
ويقول الباحثون إن التخلص التدريجي من الفحم كأحد مصادر الطاقة يعني إغلاق حوالي 9000 محطة لتوليد الطاقة بالفحم في جميع أنحاء العالم فيما سيعني التخلص التدريجي من النفط وقف عمل الآلاف من أنظمة الضخ ومنصات الحفر في عرض البحر.
الأصول المتعثرة
ويطلق خبراء الاقتصاد على أنظمة الضخ والحفر التي سوف تخرج عن الخدمة في حالة التوقف عن استخدام الفحم والنفط، الأصول المتعثرة بمعنى البُنى التحتية الصناعية الشاسعة والمتعطلة التي يرغب رجال الأعمال في شطبها من الميزانيات العمومية للشركات قبل نهاية عمرها المخطط له.
وكانت ألمانيا قد سارعت في تنفيذ الخطط المسبقة للتخلص التدريجي من محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم خلال السنوات الماضي إذ كان في المقرر وقف استخدام الفحم في مزيج الطاقة في ألمانيا بحلول عام 2038، لكن الحكومة الحالية وافقت على تقديم هذا الموعد ثماني سنوات أي بحلول عام 2030.
بيد أنه مؤخرا شكك بعض الساسة في هذا القرار، ومن المتوقع أن تؤدي خطة الإلغاء التدريجي السابقة إلى خسارة الشركات العاملة في هذا المجال قرابة 11.6 مليار يورو (12.5 مليار دولار)، بحسب دراسة أجرتها جامعة دريسدن عام 2022.
ويمثل ذلك الأرباح غير محققة التي كانت الشركات من المقرر أن تجنيها بعد أن ضخت استثمارات في مجال البنية التحتية فضلا عن أرباح المستثمرين الذين اشتروا أسهم في هذه الشركات.
الوقود الأحفوري في قلب النظام المالي العالمي
ويقول خبراء إن هذا المثال ليس سوى قطرة في بحر إذ على الصعيد العالمي، يجب التخلص التدريجي من قرابة 50% من محطات الطاقة المعتمدة على الوقود الأحفوري المستخدمة والمخطط لها حاليا في وقت مبكر عن عمرها الافتراضي بهدف الحد من تغير المناخ إلى أقل من درجتين مئويتين.
ويضيف الخبراء إنه في حالة أخذ الفحم فقط بعين الاعتبار، فإن هذا يمثل أصولا تتراوح قيمتها بين 150 مليار دولار و1.4 تريليون دولار فيما لا زال من الصعب إجراء تقييمات دقيقة لأي خسائر محتملة نظرا لأن الغموض مازال يكتنف سياسات حكومات العالم في هذا الصدد.
ويُضاف إلى ذلك عدم حسم قيمة المعادن المتبقية في الأرض وأرباح الشركة غير محققة أو قيمة المعدات التي ستكون عديمة الفائدة في حالة التوقف عن الاعتماد على الفحم والنفط كمصدر لتوليد الكهرباء.
بدورها، قالت جوييتا جوبتا، الأستاذة في جامعة أمستردام، إن “المشكلة المتعلقة بالوقود الأحفوري هي أن قيمته تتراوح بين 16 تريليون دولار إلى 300 تريليون دولار.. وهذا رقم ضخم”.
صناديق التقاعد
ولا يتوقف الأمر على صناعة النفط فقط وإنما يرتبط الأمر بالصناعات والكيانات التجارية والاقتصادية المرتبطة بها فيما يعد صناديق التقاعد العامة المثال الأوقع على هذه المعضلة.
ويقول الخبراء إن هذه الصناديق مرتبطة بشكل ما بصناعة الوقود الأحفوري حيث يُجرى استثمار الكثير من الأموال في قطاعات الفحم والنفط والغاز مما يعني خسارة أموال كثيرة في حالة اعتماد سياسية مناخية تُقصي الوقود الأحفوري تدريجيا.
وفي تعليقها، قالت استاذة تمويل المناخ في جامعة أوتريخت، إيرين مونستيرولو، إنه يمكن أن يتعرض صندوق التقاعد في أوروبا “لما يصل إلى 48% من الشركات التي قد تكون معرضة لخطر الأصول المتعثرة”.
وانضمت مونستيرولو إلى مجموعة كبيرة من الباحثين والأكاديميين والخبراء الذين أخذوا على عاتقهم تحديد المخاطر التي يتعرض لها النظام المالي الأوسع جراء أصول الكربون.
ويعود الفضل في إطلاق هذا النقاش إلى مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا السابق، الذي سلط الضوء على المخاطر المادية لتغير المناخ على الاستقرار المالي إذ دعا عام 2015 إلى مزيد من الشفافية بشأن مخاطر المناخ.
خطر فقاعة الكربون
وفي مقابلة مع المانيا اليوم، حذرت مونستيرولو من أن الأصول الكربونية المتبقية يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية، مضيفة “الأمر لا يتعلق بقضية ما إذا كانت هناك فقاعة مالية، بل الأمر يتعلق برمته فيما إذا كانت هذه الفقاعة سوف تنفجر أم لا؟ وأيضا الوقوف حيال هل ستؤدي الإجراءات التي قد تتخذها الحكومات ورجال الأعمال والبنوك المركزية إلى انفجارها أم لا؟”.
وفي هذا السياق، ذكرت بلومبرغ أن البنك المركزي الأوروبي هدد في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بفرض غرامات على نحو عشرين بنكا في أوروبا بسبب سوء التعامل مع المخاطر المناخية، بيد أن عوائد الاستثمار يمكن أن تجعل أصحاب المعاشات في موقف معارض للإجراءات المناخية الصارمة.
وفي هذا الصدد، طالبت معظم كبرى البنوك المركزية على مستوى العالم، المصارف لديها بإجراء ما يُعرف بـ “اختبارات الإجهاد” للوقوف على تهديدات تغيرات المناخ على الاستقرار المالي.
وبالعودة إلى منطقة إيسن، فقد تحولت المداخن الملوثة للبيئة إلى مناطق جذب سياحي وتحويل المناجم السابقة إلى متحف وموقع لإقامة الأنشطة والفعاليات في تغيير جذري يضع الصالح العام فوق الأرباح قصيرة المدى.
أعده للعربية: محمد فرحان