بغض النظر عن الفريق الفائز أو الخاسر أو اللاعب الذي لعب أو زمليه الذي جلس على دكة الاحتياط، فإن السرد الشائع في عالم كرة القدم الألمانية يعود غالبا إلى المصطلح الألماني (Kopfsache)، فيما يقابله بالعربية “الحالة الذهنية أو العقلية”.
يعاني حوالي 5% من الرياضيين في رياضات النخبة من حالات اكتئاب بما يتماشى مع الحالة النفسية لسكان البلاد، لكن كرة القدم الألمانية باتت على دراية تامة بالأمراض النفسية وفي مقدمة ذلك يأتي مرض العصر “الاكتئاب”، خاصة عقب واقعة حارس مرمى هانوفر والمنتخب الألماني، روبرت إنكه، الذي قرر وضع حد لحياته بعد سنوات عانى فيها من اكتئاب حاد لينتحر بإلقاء نفسه أمام قطار في هانوفر في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2009.
ويتساءل كثيرون حيال مسار علم النفس الرياضي في ألمانيا في الوقت الراهن وماذا تحقق منذ وفاة إنكه المأساوية؟
وفي تعليقه، قال رينيه باش، أحد أبرز علماء النفس الرياضي في ألمانيا، في سبتمبر/أيلول الماضي، إن دور طب النفس الرياضي في حاجة إلى “نقلة نوعية” بسبب التمسك “بأنماط وأساليب تفكير عفا عليها الزمن” أعاقت روح الابتكار.
ويعترض آخرون على ما ذهب إليه باش.
بدورها، أشادت يوهانا بيلتس، عالمة النفس الرياضي في أشهر جامعة رياضية ألمانية في كولن (كولونيا)، بالفترة التي قضتها في العمل داخل أكاديمية كولونيا لكرة القدم وعن دور علم النفس الرياضي بالنسبة لللاعبين داخل المستطيل الأخضر.
وفي مقابلة مع المانيا اليوم، قالت: “كانت تجربتي مع الأكاديميات الكروية جيدة للغاية بما يتجاوز أكثر بكثير الحد الأدنى، لكن بالطبع في الأكاديميات، حيث يتولى فيها أخصائي نفسي رياضي مسؤولية عشرة فرق، فإن تحقيق تقدم مماثل غير ممكن. يحتاج البعض إلى تبني وجهة نظر أكثر واقعية، لكننا بحاجة أيضا إلى الاحتفاء بما تحقق”.
التقدم في مجال الصحة العقلية
في المقابل، يشعر آخرون أن رأي رينيه باش لا تعكس الواقع الحالي ومن بين هؤلاء كريستوف هير، مسؤول علم النفس في الاتحاد الألماني لكرة القدم، الذي قال: “هناك مشكلة أخرى تواجه علم النفس الرياضي في كرة القدم الألمانية في الوقت الحالي تتمثل في استمرار الارتكان إلى صورة نمطية ومحافظة للعمل النفسي في سياق أداء عالي المستوى”.
ومتحدثا إلى المانيا اليوم، أضاف: “لهذا السبب من المهم جدا القول بأن عملنا جدير بالثقة. لا يتعلق الأمر دائما بأن نكون الأعلى صوتا، بل يتعلق الأمر بالاستماع إلى زملائنا ذوي الخبرة الذين يتمتعون بخبرة كبيرة في العمل داخل عالم الساحرة المستديرة. أرغب في بعض الأحيان في سماع تصريحات أقل تعميما، وعندها لن تكون صورة علم النفس الرياضي مشوهة إلى هذا الحد”.
وفي السياق ذاته، يجمع كثيرون على أن علم النفس الرياضي ساهم كثيرا في تقدم كرة القدم الألمانية منذ أن جعل الاتحاد الألماني لكرة القدم، قبل خمس سنوات، تواجد خبراء في طب النفس الرياضي إلزاميا في الأكاديميات.
وفي ذلك، قال هير إنه يسمع بشكل متزايد تصريحات تصدر عن رؤساء الأكاديميات الرياضية، يتحدثون فيها بشكل ضمني عن علم النفس الرياضي في إطار مفهوم واسع النطاق.
وأقر هير بإشكالية استمرار العمل ببعض الأساليب القديمة، لكنه يعتقد أن أحد أفضل الأشياء التي يمكن أن يقدم عليها خبراء علم النفس الرياضي تتمثل في الانخراط في عملية صنع القرار داخل كرة القدم الألمانية.
وأضاف “نريد الانخراط في حوار مع مدربين وصناع القرار لأن إشراك علماء النفس الرياضي وخبراء النفس في منظومة كرة القدم الألمانية سيكون ركيزة أي تقدم. يجب زيادة الوعي بهذا الأمر من خلال التطوير المستمر لعلم النفس الرياضي.”
تزايد الحاجة إلى علم النفس الرياضي
وقد شهد مجال علم النفس الرياضي تطورا منذ وقت طويل، لكن بعض الأكاديميات الألمانية غير مستعدة لتلبية حاجتها إلى خبراء في مجال الطب النفس الرياضي؛ ربما بسبب التكلفة أو نقص المعرفة.
وعندما يتطرق الحديث عن دور الطب النفسي في عالم كرة القدم الألمانية، فإن تيمو هاينز يعد الأفضل والأنسب للحديث عن ذلك بسبب أنه أحد علماء النفس الرياضيين في أكاديمية ليفركوزن وعمل مع أفضل اللاعبين الشباب في ألمانيا فضلا أنه كان لاعبا في السابق.
وفي مقابلة مع المانيا اليوم، قال إن التغيير لا يحدث بوتيرة سريعة، لكنه يحدث، مضيفا “مقارنة بالعديد من المجالات الاحترافية في كرة القدم، مازلنا في المراحل المبكرة نسبيا. ومع ذلك، فإن الوعي بعلم النفس الرياضي يتزايد من موسم إلى آخر، وأنا مقتنع بأن هذا الاتجاه سيستمر في المستقبل لأن الأندية والمدربين يعترفون بالحاجة إلى خبراء في مجال طب النفس الرياضي”.
وأضاف هاينز: “في نهاية المطاف، فإن الأمر يتعلق باللاعبين. إنه يتعلق بخلق مساحة يتم فيها حماية صحتهم العقلية بأفضل طريقة ممكنة على الرغم من الضغوط النفسية عليهم داخل وخارج المستطيل الأخضر. الأمر يتعلق أيضا بدفعهم صوب حلول فردية في مجالات مختلفة من الحياة في إطار التنمية الشخصية الشاملة بهدف إرشادهم إلى الطرق التي يمكنهم من خلالها تحسين أدائهم من خلال الاستراتيجيات العقلية”.
المزيد من الاستثمارات
ويقول خبراء إن توظيف المزيد من علماء النفس الرياضي في عالم كرة القدم الألمانية يعد أمرا ضروريا للغاية، لا سيما في كرة القدم النسائية، بحسب ما أشارت إليه يوهانا بيلتس، الخبيرة المخضرمة في مجال طب النفس الرياضي.
ورغم أنها قالت إنها حصلت على الكثير من الفرص لتطبيق نظريات طب النفس الرياضي على أرض الواقع من خلال دورة تدريبية مدتها مئة ساعة، إلا أنها أقرت بأنها كانت محتاجة إلى الحصول على دورة تدريبية بهدف تحسين مهارات الحوار بهدف تعزيز قدرتها على أداء وظيفتها.
ويبدو أن الاتحاد الألماني لكرة القدم قد أدرك وجود فجوات، ما دفعه إلى تقديم دورة تدريبية محددة مدتها ستة أشهر لعلماء النفس الرياضي العاملين في مجال كرة القدم وأيضا أقدم على إنشاء ستة محاور إقليمية حتى يتمكن علماء النفس الرياضي من الأكاديميات المختلفة من الاجتماع وتبادل الأفكار.
ويجمع الخبراء على أن علم النفس الرياضي حقق كثيرا في مجال كرة القدم الألمانية خلال فترة قصيرة منذ أصبح إلزاميا، لكنه في حاجة إلى التطوير المستمر وتبني نهج أكثر شمولية ومتعدد الأوجه.
الكاتب: جوناثان هاردينغ
أعده للعربية: محمد فرحان