على ضفاف نهر السين في العاصمة باريس، وفي مساء انخفضت فيه درجات الحرارة إلى ما دون درجتين تحت الصفر، يتجمع الشبان حول نار صغيرة أشعلوها بشق الأنفس، ويتبادلون أطراف الحديث في محاولة لإشغال أنفسهم عن البرد القارس والواقع المعقد لحياتهم دون مأوى.
يقطع حوارَهم صوتٌ قادم من بين الخيام “طعام.. جلبوا بعض الطعام”، في إشارة لإحضار بعض المتطوعين وجبات ساخنة. ينطلق المهاجرون نحو نقطة التوزيع، فيما يبقى الضيف محمد بجانب النار، ويستدرك “سأبقى هنا لأحافظ على النار مشتعلة، أحضروا لي بعض الطعام”.
يقول الشاب السوداني ذو الـ19 عاماً، “قالوا لنا إنه وبمجرد الوصول إلى أوروبا، سنحصل على مسكن وسنلتحق بالجامعات والمدارس، انظر إلى حالنا، نعيش في الشارع على الرغم من هذا البرد الشديد”.
ويعيش نحو 100 مهاجر، معظمهم سودانيون، في هذا المخيم العشوائي الواقع تحت جسر في شرق العاصمة باريس. ووصل معظم هؤلاء المهاجرين إلى فرنسا مؤخراً (أحدثهم وصولاً قبل يومين، وأقدمهم ثلاثة أسابيع)، ومنذ وصولهم، يقضون أيامهم في هذا المخيم المخفي بشكل تام تحت الجسر الذي نادراً ما يمر من أسفله المشاة، ولا يقطع رتابة أيامهم فيه سوى عبور الدراجات الهوائية بالقرب منهم.
“لا نعرف لماذا لم نبقَ في إيطاليا.. كان الوضع أفضل هناك”
وكل هؤلاء المهاجرين وفدوا إلى السواحل الإيطالية خلال الأشهر الماضية، بعد عبور البحر على متن قوارب متهالكة، لكنهم قرروا مواصلة طريقهم والقدوم إلى فرنسا.
يتابع الضيف محمد “وصلت إلى إيطاليا في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعد عبور البحر المتوسط على متن قارب مطاطي انطلق من ليبيا، وعلى متنه 43 شخصاً. وقررت مع مجموعة من رفاقي السودانيين الانتقال إلى فرنسا. لم يكن لدي صراحة سببا واضحا دفعني للانتقال سوى أن اللغة الفرنسية تستخدم في أكثر من دولة على عكس الإيطالية”.
يتناول قضيباً معدنياً ويبدأ بتحريك قطع الخشب المشتعلة، ويضيف “في إيطاليا كان الوضع أفضل، كنا نعيش في مراكز ومخيمات، لم ننم ولا ليلة واحدة في الشارع أو في العراء. لكن في فرنسا، نمت أول ليلة على الأرض دون خيمة، انتظرت حتى غادر مهاجر آخر من خيمته، ولجأت إليها من بعده، هذا هو الحال هنا”.
وعند سؤالهم عن وضعهم القانوني وإجراءات طلبات لجوئهم، وإذا ما سمعوا عن اتفاقية دابلن ووجوب طلب اللجوء في أول دولة أوروبية يصلون إليها، شارك جميع المهاجرين الإجابة ذاتها: “لا نعلم، ولم تعرض علينا أي حلول بخصوص السكن أو الإقامة”، في إشارة إلى حالة من عدم الدراية بالإجراءات القانونية اللازم اتخاذها، بالإضافة إلى نقص التوجيه والإرشاد من قبل الجمعيات العاملة في المنطقة، والتي تحاول جاهدة التعامل مع حالة الطوارئ والبرد القارس، ونقص الطعام والأساسيات.
من جانبها، قالت صوفي وهي متطوعة في جمعية “يوتوبيا 56″، إن “الكثير منهم لا يعرفون حقوقهم. يصلون من إيطاليا إلى محطة أوسترليتز، ويبقون هناك”.
أزمة إيواء المهاجرين والمشردين في فرنسا
وبحسب المهاجرين، لم يتعرضوا لأي مضايقات من قبل المارة أو من قبل السلطات، مشيرين إلى أن دوريات من الشرطة قدمت إلى المخيم أكثر من مرة لكنهم كانوا “لطيفين”.
وفي حديث مع مهاجرنيوز، قال أنطوني من جمعية “سوا”، “نأتي إلى المخيم لتوزيع المساعدات أسبوعيا، يومي الأحد والإثنين. نحن نطهو الوجبات ونوزعها خلال جولاتنا، كما نقوم بتوزيع القهوة الساخنة. هذا المساء قمنا بتوزيع كل الكمية التي حضرناها، لأن هناك الكثير من المهاجرين. ولم يكن لدينا ما يكفي للجميع. يحتاج هؤلاء الأشخاص إلى الملابس والخيام الخالية من الثقوب بقدر حاجتهم إلى الطعام”.
يعلق الضيف محمد “لا نعاني من مشكلة متعلقة بالطعام والشراب، الجمعيات تزودنا بذلك، لكننا لا نعرف ما الخطوة القادمة بخصوص الإيواء أو الحصول على إقامات. ونعاني أيضاً من الانقطاع الكامل في الاتصال مع عائلاتنا في السودان”.
وفيما يتعلق بإيواء هؤلاء المهاجرين، قالت صوفي “تمتلك المحافظة بضع مئات من الأماكن، وهو عدد ضئيل مقارنة بعدد الأشخاص في الشارع. نظام الإقامة في حالات الطوارئ عبر 115، مشبع تماما”.
وفي مواجهة موجة البرد التي تشهدها البلاد حاليا، أعلنت مناطق فرنسية مختلفة تفعيل خطة “البرد الشديد” تباعا، وأتاحت منطقة “إيل دو فرانس” 50 مكانا لإيواء العائلات أو النساء العازبات، و50 مكانا للرجال ابتداءا من أول أمس الأحد، وفق صحيفة لوباريزيان.
كما أعلن وزير الإسكان، باتريس فيرجريتي، أنه سيتم تخصيص تمويل إضافي بقيمة 120 مليون يورو “لتعزيز نظام الإقامة في حالات الطوارئ”. ومن المتوقع أن يغطي هذا المبلغ تكاليف 10 آلاف مكان إقامة جديد.
وبحسب الوزير، سيتم تخصيص هذه الزيادة في الميزانية لاستيعاب النساء والأطفال ممن يعيشون في الشارع دون مأوى، والذين يقدر عددهم بنحو 3000 شخص وفقا للجمعيات، بالإضافة إلى المساهمة في “إصلاح متعمق لنظام الإقامة في الحالات الطارئة”.
مهاجر نيوز 2024