تلوح قمة جبل الشيخ أو جبل حرمون المغطاة بالثلوج فوق كريات شمونة، فيما أضحت البلدة الواقعة في شمال إسرائيل أشبه بمدينة أشباح في الأشهر الثلاثة الماضية، فشوارعها باتت خالية من المارة فيما فتحت بعض المتاجر أبوابها أمام الزبائن. ومن حين لآخر، يكسر دوي الانفجارات حالة الصمت الرهيبة التي تطبق على المدينة التي تقع قرب الحدود الإسرائيلية- اللبنانية إذ لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن قواعد حزب الله العسكرية.
في تعليقه على الوضع الراهن، قال آرييل فريش، عضو أحد فرق الطوارئ التابعة للبلدية، “يمكن سماع إنذارات تقول أنه أمام السكان خمس ثوانٍ للذهاب إلى الملاجئ. نسمع هذه التنبيهات عقب سماع دوي الانفجارات التي تحدث في معظم الأوقات. هذا يعني أنه إذا كان المرء يقود سيارته فإنه في عرضة للإصابة”.
قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان يبلغ عدد سكان البلدة أكثر من 23 ألفا، لكن عقب هجوم حماس الإرهابي دعت الحكومة الإسرائيلية سكان كريات شمونة إلى الإجلاء فيما شملت أوامر الإخلاء كافة القرى في شمال البلاد الواقعة على امتداد 3.5 كيلومتر من الحدود.
وعلى وقع أوامر الإخلاء، غادر أكثر من 50 ألف شخصا من سكان المنطقة الحدودية منازلهم فيما أشارت تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى انتقال 35 ألفا من مدن جنوب إسرائيل إلى وسط البلاد. ومع غياب أي أفق على انتهاء الحرب بين إسرائيل وحماس، مازال الغموض يكتنف موعد عودة النازحين إلى ديارهم خاصة مع تزايد وتيرة إطلاق الصواريخ والقذائف والغارات الإسرائيلية.
وفي ضوء تصاعد التوتر، تتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن مخاوف اندلاع حرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل ما ينذر بمخاطر كبيرة وسط حديث الأوساط العسكرية عن أن كلا الجانبين ربما يخطئان في تقدير الوضع، أو ربما تقدم إسرائيل على توجيه ضربة استباقية ضد حزب الله بهدف تغيير الوضع الراهن.
وأشار مراقبون إلى أن هجوم حماس الإرهابي تسبب في تعزيز العقيدة العسكرية الإسرائيلية بحيث لا يجب أن تتسم بالطابع الدفاعي مجددا. في هذا السياق، قال هرتسي هاليفي رئيس هيئة الأركان العامة في جنوب إسرائيل في بيان أثناء زيارته المنطقة الحدودية: “لا أعرف متى ستبدأ الحرب في الشمال؟ أستطيع القول أن احتمال اندلاعها خلال الأشهر المقبلة أعلى بكثير مما كان عليه في الماضي”.
ويعد آرييل فريش، الذي يعمل مديرا لمدرسة دينية للبنين، أحد السكان القلائل الذين أصروا على البقاء في كريات شمونة رغم أن عائلته قررت المغادرة. وفي ذلك، قال: “بات سكان المدينة الذين غادروها يعيشون في جميع أنحاء البلاد حيث يقيم معظمهم في فنادق أو شقق مستأجرة. وجرى إلحاق الأطفال بمدارس أخرى فيما تكافح الشركات من أجل البقاء ولم يعد العمال يعملون في مزارع المناطق الريفية المحيطة بها”.
ورغم أن الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله عام 2006 استمرت لأسابيع، إلا أن فريش يشدد على أن “الحرب الراهنة بدأت بهجوم من قبل حماس استهدف الجنوب مما تسبب في حالة خوف أصابت الجميع. وعلى ضوء ذلك أدركنا أن تهديدات حزب الله قد تتحقق”.
حزب الله أخطر من حماس
قبل سنوات، نشر حزب الله خططا تقول إن وحدات النخبة التابعة له والمعروفة باسم “الرضوان” قادرة على “اقتحام” شمال منطقة الجليل في إسرائيل فيما عثر الجيش الإسرائيلي عام 2018 على أنفاق في المنطقة الجبلية تسمح بالتسلل من جنوب لبنان إلى البلدات الإسرائيلية.
وقال فريش: “اعتقد معظم الناس أن الأمر ليس سوى فانتازيا من صنع حزب الله، ولا يمكن أن يحدث فنحن أقوياء ونمتلك جيش الدفاع الإسرائيلي. ما يعني استحالة حدوث أي شي من هذا القبيل، لكن بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر / تشرين الأول الماضي، أدركنا أننا نواجه خطرا شديدا خاصة وأن حماس أقل استعدادا وأقل قوة من حزب الله”.
ويذكر أن حركة حماس هي مجموعة مسلحة فلسطينية إسلاموية، تصنفها ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى على أنها منظمة إرهابية. وتعتبر دول عديدة، من بينها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ودول أعضاء في جامعة الدول العربية، حزب الله، أو جناحه العسكري، منظمة إرهابية. كما حظرت ألمانيا نشاطه على أراضيها في عام 2020 وصنفته كـ “منظمة إرهابية”.
ومع استمرار التوتر، تصالح معظم سكان شمال إسرائيل مع حقيقة مفادها أن عودتهم إلى ديارهم ليست قريبة فيما قال ضابط إسرائيلي يعمل في قيادة المنطقة الشمالية الإسرائيلية إنه في ظل استمرار انتشار حزب الله “قرب الحدود مباشرة”، فمن غير المتوقع عودة السكان إلى ديارهم. وتحدث الضابط شريطة عدم الكشف عن هويته.
ومنذ اندلاع موجة القتال الأخيرة، قُتل ما لا يقل عن تسعة جنود إسرائيليين وستة مدنيين في تبادل إطلاق النار عند الحدود، فيما قال ضابط إسرائيلي إن حزب الله يستخدم حاليا “واحدا في المئة فقط من قدراته العسكرية”. وتشير تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى أن ميليشيا حزب الله المدعومة من إيران بحوزتها حوالي 150 ألف صاروخ تمتاز بالدقة العالية والقدرة على استهداف إسرائيل.
وتعد ميتال فيرشتمان يوغيف واحدة من آلاف الإسرائيليين الذين لم يعد بإمكانهم العودة إلى ديارهم إذ باتت تعيش في شقة صغيرة قرب بحيرة طبريا حيث بات المنتجع السياحي الشتوي مقصدا لسكان الكيبوتسات الحدودية بدلا من السائحين.
فقبل السابع من أكتوبر / تشرين الأول الماضي، كانت ميتال تعيش مع زوجها وطفليهما في كيبوتس “يفتاح” الهادي الذي يسكنه حوالي 400 شخص ويقع على بعد كيلومتر واحد فقط من خط ترسيم الحدود مع لبنان. وفي ذلك، قالت: ” كان يفترض أن وطني المكان الأكثر أمانا على وجه الأرض، لكني أدركت أن الأمر ليس ذلك الآن. رغم أني كنت أعيش قرب الحدود، إلا أنني كنت دائما أشعر بالأمان كنت أركض في الكيبوتس”.
قررت ميتال مغادرة كيبوتس “يفتاح” في الثامن من أكتوبر / تشرين الأول الماضي لتعيش مع أصدقائها وسط إسرائيل فيما توقعت في بادىء الأمر أنها ستعود إلى منزلها قريبا، لكن فوجئت بمغادرة كافة سكان الكيبوتس.
“لن يتكرر هذا أبدا”
وقالت إن وضع سكان الشمال يمكن احتماله مقارنة بسكان الجنوب، مضيفة: “ربما يعيد التاريخ نفسه. لقد قلنا بأن ذلك لن يتكرر هذا أبدا، لكن حدث وبات الأمر واقعا، وقد وقعت أشياء أخرى فظيعة كذلك”. ويقول مراقبون إن الغموض مازال يكتنف مستقبل المناطق الحدودية رغم تضافر الجهود الدبلوماسية الدولية لنزع فتيل الأزمة.
وتصر إسرائيلعلى ضرورة التزام حزب الله بالقرار الأممي رقم 1701 الذي صدر بعد حرب عام 2006 والذي يقضي بانسحاب عناصره إلى شمال نهر الليطاني. بيد أن هذا الشرط لن يكون كفيلا بإنهاء هواجس سكان كيبوتس “يفتاح” الأمنية. وفي هذا السياق، قالت ميتال: “كيف يمكن التوصل إلى اتفاق مع الإرهابيين؟ هذا محض جنون. إذ كيف أطمئن أنه خلال السنوات الاربعة القادمة لن يحدث هجوم يستهدفني أو يستهدفنا. هذه حرب حول وجودنا في إسرائيل وتحديدا قرب الحدود”. وكانت ميتال ضمن آلاف الإسرائيليين الذين تظاهروا ضد الإصلاح القضائي المثير للجدل الذي أجراه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
ورغم حالة الوحدة التي سادت إسرائيل عقب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلا أن الانقسامات والشكوك عادت إلى الواجهة وسط تساؤلات حيال قدرة حكومة نتنياهو على حل الأزمة الراهنة. فمع بداية الحرب، جرى استدعاء زوج ميتال في الخدمة الاحتياطية للجيش إذ تمركز جنوب البلاد. ورغم أنه عاد إلى منزله منذ أسبوعين، إلا أنه تلقى إشعارا جديدا يفيد بقرب استدعاءه لكن تمركزه سيكون في شمال البلاد هذه المرة.
وفي تعليقها، قالت ميتال “أنا في حالة خوف مجددا وأنا غاضبة من الوضع الحالي في البلاد ومن السياسيين. كيف انتهى بنا الأمر إلى هذه الأزمة؟ كيف حدث لنا ذلك؟”
أعده للعربية: محمد فرحان