"إذا توقفن سيجوع البلد"- حقوق مهضومة لعاملات الزراعة بتونس
تحمل حنان الجبلي التي تعمل في القطاع الزراعي منذ أكثر من عقد من الزمان، تحديا مضاعفا في مهنتها الشاقة. فعلى الرغم من صغر سنها الذي لا يتجاوز الحادية والعشرين سنة، فهي تعمل يوميا في الحقول لتؤمن كلفة علاجها ودوائها، اذ تعاني من مرض الكلى.
ولم يثنها هذا المرض من أن تنضم الى باقي العاملات لزراعة البذور او لجني المحاصيل، وهي تقول بحماس لـ المانيا اليوم عربية: “تعمل النساء هنا من أجل رعاية أطفالهن ودفع فواتير الكهرباء والماء والمعيشة وأنا أعمل من أجل كلفة الدواء”.
وتقدر “جمعية المرأة الريفية” عدد العاملات في القطاع الزراعي في تونس بنحو 600 ألف. وتذهب منظمات نسوية أخرى الى تقديرات أعلى باحتساب العاملات القاصرات أو اللواتي ينشطن في ضيعات عائلية أو قرى صغيرة. ولكن في كل الأحوال، هناك إجماع بشأن الصعوبات التي ترافق عمل المرأة الريفية في تونس، لتتحول إلى ما يشبه “صورة نمطية”.
وتتلخص المتاعب أساسا في ظروف العمل الهش مثل تدني الأجور حيث يتراوح الأجر اليومي ما بين 10 و15 دينارا (ما بين 3 و5 دولارات) في أقصى الحالات، بجانب الافتقاد الى ضمانات مثل التغطية الاجتماعية والنقل الآمن الى القرى والحقول.
وتقول حنان بنبرة احتجاجية: “من بين حقوق الانسان أيضا أن يحظى العامل في عمله برعاية صحية ونقل آمن وأن يحصل على مستحقاته المالية بشكل منتظم”.
ومع زيادة وعيها بحقوقها لا تتردد حنان في إعلاء صوتها بقوة لتذكير السلطة والمجتمع بما هو موكول على عاتق النساء في القطاع الزراعي. وتضيف بثقة لـ المانيا اليوم عربية: “اذا توقفت النساء عن العمل في الحقول فلن يكون هناك عملة ولن يأكل الشعب التونسي”.
معاناة في الظل
على مدى عقود ظل ملف العاملات في الزراعة التونسية متواريا لكنه منذ عام 2019 طفى بقوة على السطح في أعقاب حادث نقل مأساوي في ولاية سيدي بوزيد، تسبب في وفاة 10 عاملات ليلقى الضوء بقوة على وضعهن المذري، ويكشف عن معاناة في الظل للآلاف من العاملات الفلاحيات.
في العادة يعتمد السماسرة والوسطاء الذين يؤمنون التوظيف والنقل العشوائي في المناطق الريفية للعاملات على شاحنات تفتقد الى عناصر حماية كافية. وغالبا ما يتسبب هذا في حوادث مأساوية.
وتحت ضغط الجمعيات النسوية والحقوقية أصدر البرلمان في 2019 قانونا لتنظيم هذا الصنف من النقل. لكن حوادث المرور لم تتوقف وكان آخرها حادث بولاية بنزرت (منتصف يناير 2024) خلف اصابات في صفوف 39 شخصا من بينهم عاملات، مع تعرض اربع منهن لكسر على مستوى الحوض استوجب اخضاعهم الى عمليات جراحية.
واجمالا أحصى المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 69 من حوادث المرور لعاملات الزراعة منذ عام 2015 خلفت 835 حالة اصابة و55 حالة وفاة، وهو “رقم مفزع” كما يصفه المنتدى.
ويضيف رئيس المنتدى عبد الرحمان الهذيلي أن هذه الحوادث تمثل”إجراما في حق العاملات في القطاع الفلاحي تتجاوز كل التوصيفات القانونية المنصوص عليها في قوانين مقاومة العنف وقوانين الشغل لتصل الى حد القتل العمد والاتجار بالبشر”.
لكن بخلاف النقل، تفيد الاحصاءات التي قدمها المنتدى في دراسة ميدانية أن 92 بالمائة من العاملات في القطاع الفلاحي يعملن دون تغطية اجتماعية، بينما تتقاضى 2 بالمائة فقط من العاملات الفلاحيات، الأجر الأدنى الفلاحي المضمون (حوالي 6 دولار يوميا) في حين تتقاضى 78 بالمائة من العاملات أدنى من ذلك.
ويصنف المنتدى هذا السلوك الشائع في الحط من أجرة الفلاحيات رغم مساهمتهن في تنمية الاقتصاد الزراعي وضمان الأمن الغذائي، بالعنف المنظم ضد المرأة.
وتقول الناشطة بالجمعية بدرة الجلاصي التي أطلقت مبادرة سمتها “فالحة”، لتعزيز الوعي بدور العاملات في القطاع الزراعي: “نريد تغيير السلوك الاجتماعي تجاه ظواهر محددة بطريقة مختلفة. لا نريد ان تبقى المرأة ضحية هذا الواقع”.
تغيير الصورة النمطية
تعمل “جمعية المرأة الريفية” على زيادة الوعي بالدور المحوري للمرأة في القطاع الزراعي وتغيير تلك الصورة النمطية “للعاملة الضحية”. وتركز أنشطتها بشكل خاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي لسهولة انتشارها وعبر دورات تدريبية مباشرة للعاملات في المناطق الريفية.
وتضيف الناشطة لـ المانيا اليوم عربية أن “المرأة تمثل حلقة انتاج مهمة في الزراعة. اذا لم تعمل فلن يكون هناك انتاج. لهذا نعمل على تغيير المفاهيم والتعريف بقصص النساء على أوسع نطاق ممكن لإيجاد حلول حقيقية للمشاكل التي تعاني منها”.
هذا ولا تتوقف مشاكل المرأة الزراعية عند محيطها المهني فالصعوبات التي ترزح تحت وطأتها تلقي بآثارها على عائلتها وأبنائها ومستقبلهم التعليمي، حيث تتفشى ظاهرة الانقطاع المدرسي في صفوفهم.
وثمة معاناة اضافية تتمثل في آثار التغير المناخي الذي عطل بشكل واسع أعمال المرأة في القطاع الزراعي بسبب الجفاف الذي ضرب تونس في سبعة مواسم من بين المواسم الثمانية الأخيرة. وتشير رئيسة “جمعية المرأة الريفية” إلى أن التغير المناخي دفع الكثير من العاملات الفلاحيات الى التنقل الى مناطق بعيدة بحثا عن مورد رزق، وهذا الامر ضاعف من متاعبهن.
وجاء قرار الحكومة بالحد من الزراعات ذات الاستهلاك العالي للمياه بهدف التقشف في الموارد المائية المتاحة ليقلص بشكل كبير من فرص العمل للآلاف من النساء ومن زيادة التقليص ايضا في أجور اللواتي ما يزال لديهن فرصة عمل. وتروي “حدة” العاملة الفلاحية بجهة القيروان معاناتها لـ المانيا اليوم عربية بيأس وتقول: “نحن نعاني إلى حد اقصى. الأجرة اليومية ليست مطابقة للجهد الذي نبذله”.
تعيل حدة ثلاثة أطفال وعليها تدبر أمرها كل يوم بيومه، بأجرة لا تتجاوز 4 دولارات في اليوم مقابل 10 ساعات عمل، من أجل مجابهة ارتفاع الأسعار وكلفة المعيشة اليومية.
وتقول وزيرة المرأة في تونس آمال موسى ان الحكومة خططت بالفعل في 2023 من أجل توفير ما يقارب خمسة آلاف موطن رزق من خلال مشاريع فلاحية، تم تنفيذ 40 بالمئة منها، في اطار برامج مختلفة من اجل التمكين الاقتصادي للنساء والفتيات والأسر ولأمهات التلاميذ المهددين بالانقطاع المدرسي.
لكن منظمات حقوقية تقول ان هذه المبادرات لا تكفي لحل أزمة متفشية في أغلب الولايات وباتت سلوكا نمطيا لا يحل مشكلة المرأة الفلاحية.
وتدرك حدة أن الطريق لا يزال طويلا لتغيير الواقع، ومع ذلك تحتفظ المرأة بقدر من الرضى فيما تقدمه مع باقي العاملات. وتقول لـ المانيا اليوم عربية بفخر: “عزاؤنا اننا نشعر بالرضى عندما نشاهد الحقول خضراء ونساهم بتقديم شيء إلى المجتمع وأولادنا. اذا لم نعمل ستضطر الدولة الى الاستيراد وهذا يضر بالاقتصاد”.