فك شيفرة الصين: أين تقف بكين في الصراع بين إسرائيل وحماس؟ | سياسة
لو وقفت على ضفاف نهر هوانغبو في مدينة شنغهاي، العاصمة المالية الصينية، فستلحظ مبنى طويلا بسقف نحاسي أخضر. هنا نزل ضيوف الدولة مثل الرئيسين الأمريكيين رونالد ريغان وبيل كلينتون وكذلك مشاهير عالميون كتشارلي شابلن وجورج برنارد شو. إنه ما يُعرف اليوم بفندق السلام، الذي كان حتى عام 1949 يسمى فندق كاثي. بُني الفندق عام 1929 على يد التاجر اليهودي فيكتور ساسون. وبقي لعدة سنوات أعلى مبنى في المدينة.
انتقل ساسون إلى شنغهاي في عشرينات القرن العشرين، حيث بنى إمبراطورية تجارية هناك. وخلال الحرب العالمية الثانية، وبدعم منه، تم بناء مستوطنة تبلغ مساحتها حوالي 2.5 كيلومتر مربع، وفيها وجد قرابة 20 ألف يهودي من أوروبا الحماية من الاضطهاد النازي.
ولكن بعد الحرب ووصول الشيوعيين إلى السلطة، غادر معظم اليهود شنغهاي. واضطر فيكتور ساسون إلى بيع شركاته للحزب الشيوعي الصيني بأقل من قيمتها.
تظهر قضية ساسون كيف تعامل الشيوعيون مع اليهود، ومن ثم مع دولة إسرائيل الناشئة: بأحكام مسبقة. فخلال الحرب الباردة أعلنت الصين باستمرار تضامنها مع حلفائها العرب، وصوتت في الأمم المتحدة دائما ضد إسرائيل. ولم تقم الصين علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بشكل رسمي إلا في عام 1992.
التجارة مع إسرائيل لها الأولوية
ومنذ التطبيع أضحت إسرائيل بالدرجة الأولى شريكا تجاريا للصين. ووصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى 22 مليار دولار في عام 2023. أي ما يعادل حجم التبادل التجاري بين الصين والسويد، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي.
وكان من المقرر أن يسافر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى الصين في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وكان من المخطط أن يكون على جدول أعماله إبرام اتفاقية للتجارة الحرة مع الصين. والآن تم تأجيل الزيارة بسبب الهجوم الإرهابي الذي نفذته حركة حماس الإسلاموية المسلحة.
ويكاد ينحصر تبادل الوثائق الرسمية بين البلدين على مجال الاقتصاد والتجارة. ولم يكن الصراع في الشرق الأوسط قضية كبيرة فيها. فمثلا، اقتصر البيان الختامي بعد زيارة نتانياهو الأخيرة إلى بكين في عام 2017، على ذكر أن الصين تريد تعزيز الابتكارات المشتركة مع إسرائيل وتشجيع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الفائقة.
إسرائيل كحليف للولايات المتحدة
وفي الوقت نفسه، تهتم الصين دائما بمسألة أن إسرائيل حليفة للولايات المتحدة، المنافس الجيوسياسي الرئيسي لبكين. وقال سفير الصين لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، الذي تولى منصب رئيس مجلس الأمن الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني: “تدعو الصين القوة الكبرى التي لها التأثير الأكبر على الطرف المعني إلى تنحية مصالحها الخاصة واعتباراتها الجيوسياسية جانبا وبذل كل الجهود لإنهاء الحرب واستعادة السلام”. إنه يقصد الولايات المتحدة. وافترض تشانغ جون ضمنا أن واشنطن لها مصلحة في الحرب.
“إسرائيل ديمقراطية راسخة، وفي تحالف ثابت بقوة مع الولايات المتحدة الأمريكية”، كما يقول إيبرهارد زاندشنايدر، أستاذ العلوم السياسية لـ المانيا اليوم. ويضيف: “لذلك، من وجهة النظر الصينية، فإن إسرائيل تقف جيوسياسيا على الجانب الآخر مما تخطط الصين للقيام به حاليا، وهو تقوية التحالف المناهض للغرب”.
أصوات منتقدة لإسرائيل و”أغبياء جاهلون”
هذه المشاعر المعادية للغرب تنعكس أيضا في المنتديات الإلكترونية الصينية، والتي تخضع لرقابة شديدة من جانب أجهزة الرقابة الصينية. حيث يُنظر إلى أعمال الحرب على أنها “إرهاب ضد الشعب المسلم الأضعف، على يد الشعب اليهودي المتفوق بشكل واضح”. هذه الصورة النمطية العنصرية منتشرة على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية.
ويعلم مستخدمو “ويبو”، المنصة الأكثر شعبية في الصين، أن الحكومة الفيدرالية الألمانية تقف “بثبات” إلى جانب إسرائيل. ويمكن العثور على مئات التعليقات المعادية للسامية، ردا على ذلك على صفحة السفارة الألمانية. “المعتدون!” يكتب أحد المستخدمين. ويضيف: “لقد اتحد النازيون في ألمانيا وإسرائيل ويقفون معا ضد الإنسانية”.
وكان رد البعثة الألمانية على هذا المنشور وما شابهه واضحا ومباشرا للغاية: “من الغباء أن نطلق بشكل عشوائي على جميع أنواع الأشخاص اسم النازيين. أي شخص يجمع بين علم إسرائيل والصليب المعقوف في صورته الشخصية هو إما غبي جاهل، أو نذل عديم الضمير. سوف نقوم بحظر مثل هذه الحسابات”.
الأراضي الفلسطينية مهمة للصين
وخلافا للرأي العام، تدعي الحكومة في بكين أنها طرف محايد في صراع الشرق الأوسط. ومع ذلك، تنتقد الصين إسرائيل في المقام الأول. ووصف وانغ يي، وزير الخارجية الصيني، القتال الذي تخوضه إسرائيل بأنه “غير متناسب” ويتجاوز حدود الدفاع عن النفس بكثير. وأضاف وانغ أنه لا ينبغي معاقبة شعب غزة بشكل جماعي. وفي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، قال سفير الصين لدى الأمم المتحدة تشانغ، إنه يريد الاهتمام بالمصالح الأمنية المشروعة لكلا الطرفين المتحاربين واستعادة السلام.
ولا تجري بكين اتصالات منتظمة مع حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، لكنها تتواصل مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية. ودخلت الصين في “شراكة استراتيجية شاملة” مع السلطة في صيف 2023.
وجاء في البيان الختامي المؤرخ في 14 يونيو/ حزيران 2023، عقب المحادثات بين الرئيسين شي جين بينغ ومحمود عباس: “تدعم الصين إقامة دولة فلسطين ذات السيادة على أساس ترسيم حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وتدعم الصين استئناف محادثات السلام بين فلسطين وإسرائيل على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة وحل الدولتين”.
صمت فلسطيني بشأن انتهاكات حقوق الإنسان بحق الأويغور
وفي المقابل، تلتزم السلطة الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير، بـ “سياسة صين واحدة”، مما يعني أن الجمهورية الشعبية وحدها هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين. كما تتبنى السلطة الرواية الصينية القائلة بأن المشكلة في منطقة شينجيانغ، ذات الأغلبية المسلمة والمتمتعة بالحكم الذاتي “لا تتعلق أبدا بقضايا حقوق الإنسان، بل تتعلق بمكافحة الإرهاب والتطرف والانفصالية”.
وقبل سنوات قامت بكين بفرض نظام مراقبة شديد في شينجيانغ للسيطرة على الأويغور. وتدين الأمم المتحدة “الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان” وترى وقوع “جرائم ضد الإنسانية” محتملة في الإقليم الصيني.
ويقول أستاذ العلوم السياسية زاندشنايدر إن الصين حافظت دائما على علاقات سياسية وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية. و”هناك أسباب تاريخية لذلك. فدعم حركات التحرر هو جزء من السياسة الخارجية الصينية”. ولكن ليس عندما يتعلق الأمر بشينجيانغ أو تايوان.
وفي هذا السياق، تبحث الصين عن مؤيدين في العالم العربي للدفاع عن قمعها لشعب الأويغور. وفي حال فقدت بكين الدعم في العالم العربي، فإن ما تعتبره بكين قوى انفصالية في شينجيانغ، يمكن أن تتلقى المزيد من الدعم من الدول الإسلامية. والانتفاضات التي تقوم بها الأقليات القومية ستكون بمثابة السيناريو الأسوأ بالنسبة لقيادة الحزب الشيوعي، التي ترى في وحدة البلاد أولوية قصوى بالنسبة إليها.
نجاح الصين في الوساطة بين السعودية وإيران، لن يتكرر في الوساطة بين إسرائيل وحماس لأنها “لا تتمتع بالمصداقية الكافية”
الصين كوسيط في الشرق الأوسط
ومنذ عام 2019 صار للصين مبعوث خاص للشرق الأوسط. ومن بين مهامه الدفع بعملية السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب. ومنذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، أجرى المبعوث الحالي تشاي جون اتصالات مع مختلف الأطراف والعديد من الدول العربية. وذكر أن الصين تؤيد السلام وترى أن “الفشل في حماية الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني” هو سبب الصراع المستمر. وشدد على أن الصين وروسيا لديهما نفس وجهة النظر بشأن الصراع، ويعملان معا على وقف تصعيده.
إن التركيز على القرب من روسيا يأتي ضمن توجه محدد. وعن ذلك يقول الباحث زاندشنايدر إنه في السنوات الأخيرة اعتمدت الصين بشكل متزايد على الشركاء غير الغربيين، وفي الوقت نفسه زادت بشكل كبير من ظهورها العالمي، ويضيف: “خلال العقود القليلة الماضية بقيت الصين خارج الصراع في الشرق الأوسط. لكننا الآن رأينا الصين تلعب دور الوسيط، كما هو الحال في وساطتها بين السعودية وإيران”. وفي أبريل/نيسان 2023، نجحت الصين في إحداث تقارب بين الخصمين في الخليج، ونتيجة لذلك تصدرت عناوين الأخبار العالمية كوسيط. ويعتقد زاندشنايدر أن مثل هذا النجاح لن يتكرر في الحرب بين إسرائيل وحماس: “لا تمتلك الصين في هذه الحالة بالذات ما يكفي من المصداقية للتوسط بين إسرائيل وحماس“.
يذكر أن حركة حماس، التي هي مجموعة مسلحة فلسطينية إسلاموية، تصنفها ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى على أنها منظمة إرهابية.
يوان دانغ/ف.ي