كيسنجر.. مهندس الواقعية الأمريكية يرحل في زمن أزمات مستعصية
في عمر المائة، يترجل كيسنجر الألماني المولد والذي هاجر يافعا مع أسرته سنة 1938 من ألمانيا النازية، إلى أمريكا حيث درس العلوم السياسية في جامعة النخبة “هارفارد”، وأصبح مهندس السياسة الخارجية الأمريكية لمدة نصف قرن من الزمن قائمة على نظرية “الواقعية السياسية”. خلف كيسنجر وراءه رصيدا ضخما من الإنجازات في العلاقات الدولية، توّجها بجائزة نوبل للسلام عن دوره في إنهاء حرب فيتنام. كما كان دوره حاسما في إدارة دفة العلاقات الأمريكية مع العملاقين السوفيتي والصيني إبان حقبة الحرب الباردة.
وقصة هنري كيسنجر مع العالم العربي تكتسي إثارة خاصة، إذ جاء توليه لمنصبه كوزير للخارجية الأمريكية قبل أيام قليلة من اندلاع حرب أكتوبر 1973 بين إسرائيل وجيرانها العرب. بيد أن علاقة الرجل بملفات المنطقة بدأت قبل ذلك سنوات، وعلى الأقل منذ توليه لمنصبه كمستشار للأمن القومي في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون سنة 1969.
وبقدر ما كان الرجل يحظى بالتقدير والإعجاب لأدواره الديبلوماسية القوية، وخصوصا في الأزمات الكبرى، كان محل انتقادات في نظر آخرين، وخصوصا على خلفية تغليبه منطق الواقعية في السياسة الأمريكية على حساب القيم. ومن أبرز الانتقادات التي وجهت لسياسته “خطة كوندور” للقضاء على معارضي الديكتاتوريات في أميركا الجنوبية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
ومن المفارقات أن يرحل كيسنجر في زمن أزمات مستعصية، بدءا بالغزو الروسي لأوكرانيا والصراع المفتوح بين روسيا والغرب، والأزمة القائمة في العلاقات الأمريكية الصينية، ووصولا إلى الحرب بين إسرائيل وحماس. إذ تكشف تطورات الأزمات المستعصية التي تعصف حاليا بالعالم، حجم الفراغ في الدبلوماسية، وغياب شخصيات عالمية محنكة، من عيار كيسنجر، تلعب أدوارا حاسمة في نزع فتيل الحروب.
أزمات الشرق الأوسط .. اختبار صعب لكيسنجر
كيسنجر الحاصل لتوه على جائزة نوبل للسلام عن دوره في مفاوضات إنهاء الحرب بين بلاده وفيتنام، سيكون فياختبار صعب في مواجهة حروب وأزمات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إذ تكشف وثائق لوزارة الخارجية و للمخابرات الأمريكية مصنفة سرية أو سرية للغاية، تم رفع السرية عنها بعد مرور 25 عاما أو أكثر، عن معلومات حسّاسة حول استراتيجية كيسنجر في إدارة أزمات المنطقة، وكيف يجري التعامل معها بشكل مواز.
استهل كيسنجر أول جولة له بمنطقة الشرق الأوسط إثر حرب أكتوبر، من الرباط بحثا عن “مشورة” الملك الحسن الثاني حول نزاع الشرق الأوسط وسبل تسويته سلميا، ومن المفارقات أن كيسنجر سيجد في المنطقة المغاربية نُذر حرب أخرى على الأبواب.
مباشرة بعد أن وضعت حرب أكتوبر 1973 أوزارها، توجه كيسنجر في أول جولة له بالمنطقة بحثا عن تسوية سلمية للأزمة. وستكون الرباط المحطة الأولى في جولته، من أجل لقاء الملك الحسن الثاني وطلب مشورته حول سبل التوصل إلى تسوية شاملة بين إسرائيل وجيرانها العرب، كما يقول الملك الحسن الثاني في مذكراته “ذاكرة ملك”، مضيفا “وبقيت على اتصال دائم بكيسنجر”.
والحسن الثاني لم يكن فقط أحد اللاعبين الرئيسيين على رقعة الصراع الواسعة بين إسرائيل والدول العربية، فقد شارك جيشه في حرب 73 وكان في نفس الوقت صاحب مواقف ومبادرات مبكرة في الاتصالات بين الإسرائيليين وخصومهم من الفلسطينيين والقادة العرب، بل كان طرفا رئيسيا في تطورات ملف الصحراء الذي كان على صفيح ساخن.
يقول بيرنارد غويرتزمان موفد صحيفة “نيويورك تايمز” عن جولة كيسنجر الشرق أوسطية، في مقال نشره بالصحيفة في عددها الصادر يوم السادس من نوفمير/ تشرين الأول 1973، أن كيسنجر أول وزير خارجية أمريكي يهودي يزور دولة عربية (المغرب) كان يبدو أثناء رحلته في الطائرة بمزاج هادئ، وعندما وصل إلى الرباط، التقى في البداية الملك الحسن الثاني وتناول معه العشاء في إقامة خاصة خارج العاصمة، ثم أقيم له حفل استقبال رسمي في اليوم التالي بالقصر الملكي في الرباط.
وشملت جولة كيسنجر الأولى للمنطقة، دولا عربية “معتدلة” كما يصفها الأمريكيون، وهي تونس ومصر والأردن والسعودية، ولم تشمل الجزائر التي زارها بعد شهر، ليلتقي الرئيس هواري بومدين، الذي كان يوجد على الطرف الآخر في مشهد عربي منقسم بين دول “معتدلة” ودول “راديكالية” مصطفة مع الاتحاد السوفييتي ومناوئة للنفوذ الأمريكي والغربي.
وشاركت الجزائر في حرب 1973 بقوات، كما ساهمت في حملة حظر النفط التي نفذتها دول عربية لعدة أشهر ضد الولايات المتحدة ودول غربية داعمة لإسرائيل، بيد أن الجزائر كانت الدولة الوحيدة من بين الدول العربية المصنفة أمريكيا آنذاك بـ”راديكالية”، زارها كيسنجر ثلاث مرات في أقل من عام واحد.
إذ شكلت نتائج حرب اكتوبر 1973 ودخول مصر في مفاوضات سرية مع إسرائيل عبر وساطة مغربية، منعطفا في تشكل تحالفات جديدة بالمنطقة بين أنظمة عربية معتدلة حليفة للغرب وتربطها علاقات مع إسرائيل.
بينما ستتجه الجزائر التي لعبت دور داعم أساسي للجيش المصري في حرب 1973 في محور مضاد، وخصوصا إثر توقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل سنة 1978، حيث أعقبها إعلان الزعيم الليبي الراحل العقيد معمر القذافي تشكيل ما يسمى بـ”جبهة الصمود والتصدي” التي ضمت سوريا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية واليمن الجنوبي إضافة للجزائر وليبيا.
وفيما كانت اتصالات كيسنجر ومحادثاته مع الحسن الثاني وهواري بومدين، في بداياتها تركز على أزمة الشرق الأوسط، كانت الرباط والجزائر في صلب جولات مكوكية قام بها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق سنة 1974 إلى المنطقة، انصبت فيما يتعلق بالجزائر على إنهاء حظر البترول على الدول الغربية، وتمحورت في الرباط على ترتيب أجواء محادثات سرية بين إسرائيل ومصر.
جولات كيسنجر المكوكية في عواصم المشرق والمغرب، ومفاوضاته الشاقة التي أجراها مع القيادتين المصرية والإسرائيلية، الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، ورئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، مكّنته من النجاح أولا في وضع ترتيبات وقف إطلاق النار بين البلدين بعد حرب الأيام الستة في أكتوبر تشرين الأول 1973، ثم في مرحلة ثانية وضع أسس تسوية سلمية لحروب امتدت على مدى ربع قرن من الزمن ( (1973-1948)، وستثمر في مرحلة لاحقة عن توقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام بين البلدين سنة 1977.
كسينجر ونزاع الصحراء الغربية
بعد ثلاثة أشهر من حرب أكتوبر، احتضنت الرباط قمة عربية مهمة في مسار الصراع بين إسرائيل والدول العربية، وبموازاة ذلك كان النزاع حول إقليم الصحراء الغربية في عام 1974 قد بدأ يأخذ مداه، بداية بإعلان إسبانيا نيتها الانسحاب وصدور توصية من الأمم المتحدة في مايو/ أيار 1975 بشأن تقرير المصير في الإقليم، ثم بصدور قرار من محكمة العدل الدولية في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 1975حول طبيعة العلاقة بين الإقليم والمملكة المغربية من جهة وموريتانيا من جهة ثانية، وصولا إلى تنظيم المغرب في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 المسيرة الخضراء التي ستشكل منعطفا في تاريخ النزاع حول الإقليم وخصوصا بين المغرب والجزائر.
فكيف كانت استراتيجية كيسنجر إزاء أزمة الصحراء إبان رئاسته للدبلوماسية الأمريكية (1973-1977)، وكيف كانت أدوار وتحركات اللاعبين الرئيسيين في هذا الملف إبانها، بدءا بملك المغرب الحسن الثاني ورئيس الجزائر هواري بومدين ووزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة ورئيس موريتانيا مختار ولد داده، وقادة إسبانيا -الفرنكوية والملكية- وفرنسا الدولتين الأوروبيتين الأكثر تأثيرا في مجريات هذا الصراع، وصولا إلى أدوار العقيد الليبي معمر القذافي ورئيسي تونس الحبيب بورقيبة والسنغال ليوبولد سيدار سنغور.
وفي مرحلة لاحقة ستركز لقاءات كيسنجر واتصالاته مع القيادتين المغربية والجزائرية على الاهتمام بملف الصحراء الغربية، خصوصا عندما أعلنت إسبانيا سنة 1974 نيتها الانسحاب منها.
في أكثر من وثيقة للخارجية الأمريكية، ومنها مذكرة عن محادثات أجراها كيسنجر في ديسمبر/ كانون الأول 1974 مع عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية الجزائرية في نيويورك، يبدي كيسنجر “إعجابه” بكل من الرئيس الجزائري بومدين والسوري حافظ الأسد، “رغم أنها يسببان لي المتاعب” كما يقول كيسنجر.
ويُلاحظ أن إظهار الإعجاب بالشخصية المقابلة في المفاوضات أو الصراع، أسلوب خطابي يعتمده كيسنجر في مناسبات عديدة خصوصا عندما تكون محادثاته مع الطرف المقابل صعبة، سواء أكان ذلك الطرف حليفا أم خصما.
ولعبة البوكر التي كان يتقنها كيسنجر في إدارة علاقاته مع زعماء دول المنطقة، جعلت سياسته غامضة وتتسم بملامح رمادية، مثلما كان عليه الحال بين المغرب حليف الغرب والجزائر حليف المعسكر السوفيتي.
فمقابل أسلوبه في استمالة الجزائر، لم يكن واضحا أن المغرب حصل على كل الدعم الذي كان ينتظره من الغرب. فمع تسليم كيسنجر مهامه لخلفه في إدارة الرئيس جيمي كارتر، بدأت علاقات واشنطن بالجزائر تشهد تحسنا، وأعلنت الولايات المتحدة إغلاق قواعدها العسكرية في المغرب بعد أكثر من ثلاثة عقود على الحرب العالمية الثانية.
وفي “ذاكرة ملك” يصف الملك الحسن الثاني طبيعة علاقة بلاده بحلفائها الغربيين إبان حقبة الحرب الباردة، بأن الغرب أشبه بناد يلتقي أعضاؤه بداخله دون التزامات مؤكدة مع حلفائهم، بينما يحصل حلفاء المعسكر الإشتراكي على الدعم العسكري والمالي الموثوق بحكم علاقتهم الوثيقة بالاتحاد السوفييتي.
ويُستفاد من المعلومات التي تكشف عنها الوثائق الأمريكية وسياقات الأحداث، بأن كيسنجر كان ذلك اللاعب الداهية الذي يحسن اللعب على تناقضات الخصوم والحلفاء من أجل تحقيق أهداف استراتيجيته من خلال ملفات ومجالات أوسع وصراعات ذات أبعاد أشمل، ومن أبرزها الصراع مع الاتحاد السوفييتي واحتواء الصين. ولم تكن العلاقة بين المغرب والجزائر ونزاع الصحراء الغربية، سوى قطعة صغيرة من رقعة شطرنج كبيرة تشمل الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية ودول عدم الانحياز.
منصف السليمي