ألمانيا تعد بالتغلب على ظاهرة التشرد بحلول 2030.. هدف واقعي؟
جاء بعضهم قبل الموعد بنحو نصف ساعة، فكل يوم أربعاء يستطيع المشردون تناول الطعام والشراب واستخدام الحمامات والتمتع بالدفء في قاعة انتظار كنيسة جمعية تابور في برلين. ليس هذا فحسب، بل تسعى الكنيسة إلى تقديم وجبة ساخنة أيضا في القريب العاجل.
ومن آثار الروائح المتبقية في المكان يمكن للمرء أن يكتشف أن كثيرين جدا قد باتوا في القاعة الليلة السابقة. فالكنيسة توفر المبيت منذ ثلاثين عاما للمشردين مرة كل أسبوع. وتتسع القاعة لنحو أربعين شخصا يمكنهم المبيت فيها، وأحيانا يصل العدد إلى ستين شخصا. وهناك طبيبان متطوعان يقدمان الرعاية الطبية لهؤلاء ومداواة جراحهم.
وتقول راعية الكنيسة، زابينه ألبريشت (59 عاما) “يأتي إلى هنا أيضا كثيرون نتيجة ظروف أخرى. وبالنسبة للبعض الوضع حرج جدا”. وتضيف بأن الذين يأتون للمبيت، مختلفون عن هؤلاء الذين يأتون من أجل الطعام والشراب يوم الأربعاء، كثيرون من بلدان شرق أوروبا وبعضهم يعملون في ظروف عمل صعبة.
والبعض الآخر يعاني من مشكلة الإدمان والأمراض النفسية فيما تعرض آخرون للعنف. وأشارت ألبريشت في حديثها إلى رجل “يبيت في الكنيسة منذ عشرين عاما”.
كما قامت راعية الكنيسة بتأمين دفن اثنين من الضيوف كما تسمي نزلاء الكنيسة في حديثها. لكن كيف للمرء أن يتعامل مع كل هذا البؤس؟ تجيب ألبريشت “متلازمة المساعد لا تفيد، على المرء أن يكون صارما وألا يأخذ الأمور بشكل شخصي”.
وتعني بذلك القدرة على التعامل مع الأشخاص العدوانيين والخشنين أيضا. ومن أجل ذلك هناك حاجة لأناس مثل مارغوت موزر (79 عاما) التي تساهم منذ البداية في تنظيم تأمين المأوى للمشردين، ولاتزال تساهم بنشاط حتى اليوم مع 20 متطوعا آخرين. وربما لأن عليها أيضا تدبير حياتها اليومية بقليل من المال، فتريد مساعدة الآخرين، ولكنها لا تعيش في أوهام.
وتقول موزر: “في بعض الحالات، يكون السبب هو الغباء: ينتقلون للعيش مع شخص ما، يتخذون قرار التخلي عن منزلهم، ثم ينتهي الأمر، ويجدون أنفسهم في الشارع”، بهذه الكلمات تشرح العاملة الاجتماعية الفعّالة نمطًا شائعًا. ومن “يفقد منزله اليوم، لا يجد سريعًا منزلًا جديدًا.”
عدد كبير من المشردين غير وارد ين في الإحصائيات
“انعدام المأوى (التشرد) يعتبر مشكلة اجتماعية كبيرة” تقول فيرينا روزنكه، مديرة أعمال الجمعية الاتحادية المعنية بمساعدة المشردين (BAGW)، وتوضح في حوارها مع المانيا اليوم أن سبب ذلك هو غلاء الإيجار. والجمعية هي منظمة على المستوى الوطني تضم منظمات فرعية معنية بخدمات ومرافق مساعدة الإسكان في حالات الطوارئ، وحسب إحصائياتها لعام 2022 كان هناك 607 آلاف شخص بدون مسكن في ألمانيا، حوالي 50 ألف منهم بدون أي مأوى مشردون في الشوارع.
في حين أن إحصائيات الحكومة، مكتب الإحصاء الاتحادي، تشمل من يقيمون في مراكز إيواء جماعية فقط، ويقدر عددهم بنحو 372 ألف شخص.
وسبب الفرق الشاسع بين الرقمين يكمن في طريقة الإحصاء، فإحصائيات الجمعية الاتحادية (BAG W) تشمل العام كله، وليس يوما واحدا بعينه. وهي تشمل التشرد المخفي أيضا، أي هؤلاء الذين ليس لديهم سكنهم الخاص بهم، ويعيشون لدى أصدقاء أو أقارب لهم أو غيرهم.
منع فقدان المسكن مسبقا
بالنسبة إلى فيرينا روزنكه يجب ألا تصل الأمور إلى هذا الحد، وترى أن “التدخل مهم جدا. يجب أن نمنع فقدان الناس لمسكنهم. كثيرون لا يعرفون أنهم يستطيعون التقدم بطلب للحصول على مساعدة السكن، أو التقدم بطلب للحصول على المساعدة الحكومية”. وبالنسبة للبلديات، من الأفضل والأوفر لها أخذ ديون الإيجار على عاتقها، بدل تمويل تكاليف المبيت في الفنادق أو مراكز الإيواء.
وحسب روزنكه فإن هناك الكثير من الإجراءات التي يمكن اتخاذها لمعالجة مشكلة التشرد وهي ليست مكلفة جدا كما يعتقد، مثل تمويل العاملين في مجال مساعدة البحث عن سكن، حيث يقوم هؤلاء بالبحث وبشكل محدد ومدروس عن العقارات المتوفرة سواء لدى الملاك العاديين أو لدى شركات العقارات التي لديها مساكن للآجار.
كما يمكن صيانة وترميم مراكز إيواء الطوارئ وتحويلها إلى مساكن اجتماعية، حسب ما تراه روزنكه.
المساكن الاجتماعية هي الحل لأزمة السكن، ولكن!
حددت الحكومة بناء 400 ألف شقة جديدة كل عام هدفا لها، منها 100 ألف شقة سكنية اجتماعية، لكن الحكومة لا تزال بعيدة جدا عن تحقيق هذا الهدف حتى الآن. وبالنسبة إلى روزنكه، فإن بناء 100 ألف شقة سكنية اجتماعية سنويا هو هدف متواضع، لا يكفي لحل مشكلة الحاجة الماسة والنقص الكبير جدا في عدد الشقق ذات الإيجار المعقول.
فبالإضافة إلى بناء 100 ألف شقة سكنية اجتماعية، هناك حاجة لبناء شقق يكون إيجارها معقولا (رخيصا نسبيا). وتشير روزنكه منتقدة إلى أنه “خلال الأعوام الأخيرة تم بناء 25 ألف شقة سكنية اجتماعية فقط” وتضيف بأن هذا العدد “لا يكفي حتى لتعويض الانخفاض في مخزون الإسكان الاجتماعي بسبب انتهاء السندات الاجتماعية”.
وتطالب روزنكه بتحديد حصص ثابتة من الإسكان الاجتماعي للمشردين الذين ليس لديهم مسكن خاص بهم، لأنهم وبسبب أحكام مسبقة لا يعتبرون في كثير من الأحيان مستأجرين محتملين.
وتجري اللجنة التوجيهية لانعدام المسكن مناقشات مع الحكومة حول كل هذه النقاط. وأعلنت أنها تريد إنهاء التشرد (انعدام المسكن) في ألمانيابحلول عام 2030 من خلال خطة عمل. ومن المقرر أن توافق الحكومة على الخطة وتقرها في ربيع العام القادم 2024. مع العلم أن تنفيذ هذه الخطة من قبل الولايات والبلديات قد يستغرق أعواما.
وترى روزنكه أن بعض التعديلات القانونية الآن يمكن أن تكون مفيدة. فمثلا فسخ عقد الآجار لعدم دفع الإيجار، يجب ألا يسقط كسبب لفسخ العقد بشكل غير عادي فقط، وإنما الفسخ العادي لعقد الآجار أيضا يجب منعه. ولكن “لا تتوفر الإرادة السياسية من أجل ذلك” تقول روزنكه.
بالعودة إلى كنيسة جميعة تابور في برلين، لا يزال هناك حوالي عشرة أشخاص في قاعة الكنيسة، وقد استلقى رجل في الممر عند جهاز التدفئة. وتقول راعية الكنيسة زابينه ألبريشت مبتسمة “يفعل البعض هذا ليشعروا بالدفء أخيرا”. ورجلان يطالعان وأمامهما خبز وقهوة من الكنيسة، ويبدو أنهما يعتنيان بنفسهما وكأنهما طالبان كبيران بالسن.
هما أيضا لفتا نظر راعية الكنيسة، التي توضح بأنه “دائما وكثيرا ما يأتي أناس إلى مقهى يوم الأربعاء في الكنيسة، لا يمكن أن أتصورهم في الخارج أنهم في عوز أو مشردون”.
أعده للعربية: عارف جابو