تحليل: تحرك روسيا خليجيا ومغاربيا.. أبعد من مجرد فك عزلة!
للوهلة الأولى يمكن قراءة حدث انعقاد المنتدى الروسي العربي السادس في مراكش (20 ديسمبر/ كانون الأول 2023) في سياق الاستقبال الذي حظي به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا من قبل القيادتين الإماراتية والسعودية.
هذا الأمر يتطابق مع صيرورة العلاقات المتنامية في السنوات القليلة الأخيرة بين روسيا وعدد من العواصم العربية في مقدمتها السعودية ومصر ودولة الإمارات، ذات التأثير الوازن على جامعة الدول العربية وتحركات باقي مؤسسات النظام العربي الرسمي.
بيد أن لقاء مراكش وزيارة تونس يؤشر إلى تطور مواز في علاقات روسيا المغاربية بالجوار الجنوبي لأوروبا.
حرب غزة.. فرصة لروسيا؟
تأتي الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس، في صدارة القضايا التي استأثرت بأجندة المنتدى الروسي العربي، كونها تشكل نقطة التقاء بين الجانبين. ففي الوقت الذي تسعى فيه موسكو لاستمالة مواقف العواصم العربية، تعرضت العلاقات الروسية الإسرائيلية منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا لاختبارات صعبة.
وتفيد قراءة البيان الختامي لاجتماع مراكش، أن حرب عزة، شكلت مناسبة أخرى لتقارب بين موسكو والعواصم العربية التي تجد فيها داعما لها في مساعيها لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، والتأكيد على ضرورة التسوية السلمية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس مقررات الشرعية الدولية.
وفي الوقت الذي لا تخفي فيه العواصم العربية – بما فيها الحليفة لواشنطن- تذمرها من الدعم الغربي الواسع لإسرائيل، تجد موسكو فيها فرصة مواتية لإحداث مزيد من الثغرات في علاقات الدول العربية بالولايات المتحدة وأوروبا، وإيجاد مواطئ قدم لها في مناطق حسّاسة بجوار أوروبا، في وقت هي بأشد الحاجة إليها في مساعيها من أجل فكّ عزلتها الدولية.
ورغم علاقات روسيا الوثيقة تاريخيا بإسرائيل، ما فتئت موسكو منذ فترة طويلة تبعث بإشارات “تفهم” لمواقف الدول العربية في ملف صراع الشرق الأوسط، وهو نهج ورثته ديبلوماسية روسيا بوتين من حقبة الاتحاد السوفيتي، وقامت منذ عقدين بتجديدها عبر إحداث آلية تشاور مع جامعة الدول العربية حول القضايا الإقليمية والدولية.
تطور العلاقات الروسية العربية ..على حساب الغرب؟
قبل أكثر من عقد من الزمن، وعندما كانت إدارتا الرئيس الأسبق باراك أوباما وخلفه دونالد ترامب تسيران حثيثا في نهجهما بالانسحاب الاستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط وتوجيه اهتمامها نحو شرق آسيا ضمن استراتيجية تضع مواجهة الصين كأولوية، ضاعفت موسكو جهودها باتجاه توثيق علاقاتها مع عدد من دول المنطقة معتمدة على قطاعات الطاقة والأمن والغذاء وتجارة السلاح.
فبالإضافة للجزائر التي ضاعفت روسيا صادراتها من السلاح لها، وحافظت على وضعها كأول مزود للجيش الجزائري الذي يُخصص له سنويا ما يناهز 10 مليارات دولار يذهب معظمها إلى صانع السلاح الروسي، استعادت روسيا دورها في العراق كمزود بالسلاح رغم ما حدث من تحولات بعد الغزو الأمريكي للبلد وإعادة بناء الجيش وتسليحه من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
ومدت روسيا يدها إلى الحليفتين التقليديتين للولايات المتحدة مصر والسعودية، عبر فتح قنوات تعاون عسكري واقتصادي كبيرة. إذ سجلت المبادلات الروسية المصرية في العام الماضي 28 في المائة. كما استعادت روسيا حضورها كمزود أساسي للسلاح إلى مصر، لأول مرة منذ حرب أكتوبر سنة 1973. ومن المتوقع في نهاية العام الحالي أن تعادل تجارة روسيا مع مصر حوالي ثلث تجارتها مع القارة الأفريقية.
وكمؤشر على الأهمية التي باتت تكتسيها علاقاتها مع موسكو، لم تستجب السعودية العام الماضي لطلب إدارة الرئيس جو بايدن بضخ مزيد من النفط، للتحكم في أسعاره في الأسواق العالمية وذلك في ذروة أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
وتعرض روسيا خدماتها على السعودية لتنفيذ مشروع مفاعل نووي تطمح المملكة لإقامته، وهو ما يقع في صلب مفاوضات تتوسط فيها واشنطن بهدف التوصل إلى تطبيع في العلاقات السعودية الإسرائيلية، وتعطّلت بسبب حرب غزة.
وشهدت العلاقات الروسية الإمارات تطورا ملحوظا، وصفها الرئيس بوتين خلال زيارته مؤخرا إلى أبو ظبي، بأنها بلغت “مستوى غير مسبوق”. وقبل بضعة أشهر نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تقريرا تحدثت فيه عن مكاسب تحققها دولة الإمارات من روسيا رغم العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها على أوكرانيا.
وكشفت الصحيفة الأمريكية النافذة في أوساط المال والأعمال، أن الإمارات “حققت مكاسب اقتصادية مستفيدة من تدفق الأموال من موسكو، إضافة إلى مرور كميات أكثر من الذهب والنفط”، مقارنة بما كانت عليه الأمور قبل الحرب الروسية الأوكرانية.
حسابات موسكو في تطوير علاقاتها مع الرباط
وفقاً لبيانات وزارة التنمية الاقتصادية الروسية فإن الدول الخمس الأفريقية الأولى من حيث حجم التبادل التجاري مع روسيا، في الثمانية أشهر الأولى من عام 2023 هي مصر والجزائر والمغرب وتونس وليبيا.
وبدوره عمّق المغرب، الحليف التقليدي الوثيق للغرب وللعواصم الخليجية التي استقبلت مؤخرا الرئيس فلاديمير بوتين، في السنوات الأخيرة علاقاته بروسيا.
وعندما أقرت الدول الغربية سلسلة عقوبات على صادرات الطاقة الروسية، أثار تعاون روسي مغربي في مجال النفط وتسويقه في دول أوروبية منها إسبانيا، انتقادات في عواصم أوروبية، وداخليا شكل البرلمان المغربي لجنة نيابية للتحقيق في الموضوع.
وأكد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في مراكش خلال المنتدى الروسي العربي، أن المغرب الذي يعتبر ثالث شريك تجاري لروسيا في القارة الأفريقية، يطمح لتوسيع شراكتهما الاستراتيجية. ومن جهته أكد لافروف أن المغرب يعد من “شركاء روسيا الأساسيين في القارة الإفريقية والعالم العربي، ولدينا مشاريع مشتركة”، مبرزا أن بلاده تعتزم تطوير شراكتها مع الرباط في عدد من المجالات الحيوية من قبيل الثقافة والمعادن والطاقة.
وفي سياق مساعيها لتطوير علاقاتها مع البلدان المغاربية، لا تقتصر حسابات روسيا على منافسة القوى الغربية في مواقع نفوذها التقليدي بالمنطقة، بل تضع أيضا في اعتباراتها اللعب على تناقضات دول المنطقة وصراعاتها الإقليمية ومن أبرزها ملف الصحراء الغربية والنزاع الجزائري المغربي.
وفي هذا السياق يمكن فهم النمو الملحوظ في حجم المبادلات المغربية الروسية والتصويت البراغماتي لمندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي على قرارات تتعلق بالصحراء الغربية، بشكل يحافظ على شعرة معاوية مع الطرفين الجزائري والمغربي. وقد جدد لافروف في مراكش التأكيد على موقف بلاده في ملف الصحراء الغربية، القائم على “تسوية سلمية للنزاع على أساس مقررات الشرعية الدولية ودعم جهود مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص للصحراء ستيفان دي مستورا“.
ويتقاطع السلوك الروسي إزاء المعادلة الجزائرية المغربية، بشكل حذر مع نهج المغرب الذي يعتمد بشكل أساسي على تحالفاته الغربية، بيد أنه يُبقي على مساحة خاصة في علاقاته تحكمها أولوية الموقف من ملف الصحراء، الذي أكد العاهل المغربي الملك محمد السادس بأنه “المنظار” الذي يحدد من خلاله المغرب شراكاته الاستراتيجية.
ومن المفارقات أن زيارة لافروف إلى مراكش ورغم أنها مقررة منذ فترة في إطار المنتدى الروسي العربي، تمت في غياب الجزائر بسبب القطيعة مع الرباط. واللافت أيضا أن انعقاد المنتدى الروسي العربي في المغرب، تزامن مع زيارات وفود دبلوماسية وعسكرية أمريكية متواترة في الأسابيع القليلة الأخيرة للجزائر الحليف التقليدي لروسيا.
وكانت العلاقات الأمريكية الجزائرية قد شهدت فتورا إثر إعلان الإدارة الأمريكية (في عهد دونالد ترامب) اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
هل تعثر موسكو على الحلقة المفقودة في علاقاتها المغاربية؟
في خطوة تبدو بمثابة سعي من روسيا لإستكمال حلقة مفقودة في علاقاتها المغاربية، توجه لافروف من مراكش إلى تونس في زيارة هي الأولى من نوعها منذ سنة 2019. ومن هناك أعلن عن تقديم “دعم مجاني” لتونس لسد حاجاتها من الحبوب مجانا.
ومن شأن ذلك مساعدة البلد المغاربي الذي يعاني ندرة في المياه نتيجة جفاف لسنوات نتج عنه موسم حصاد كارثي، ما يتوجب على تونس اللجوء لاستيراد كل حاجاتها من القمح والشعير حتى ربيع 2024.
وتقول روسيا إنها تساعد البلدان الأفريقية المحتاجة، في مسعى لتعزيز نفوذها ومنافسة الغرب، وتعني خطوة كهذه بالنسبة لتونس المثقلة بالديون أبعد من مجرد مساعدة البلد الذي يفتقر إلى السيولة لتمويل وارداته من الحبوب ما يؤدي إلى نقص منتظم في الطحين.
إذ تأتي في وقت تجتاز فيه علاقات تونس بشركائها الأوروبيين والأمريكيين مدا وجزرا بسبب تراجع حكومة الرئيس قيس سعيّد على مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد وانتهاكات حقوق الإنسان المسجلة، وتعثرت بذلك برامج الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي وفرص تنفيذ إصلاحات هيكيلية للاقتصاد.
ورغم أن لافروف استبعد أن تكون وعوده بتطوير التعاون معتونس في مجالات الزراعة والطاقة، بما فيها النووية والتكنولوجيات الحديثة، تنطوي على نوايا لتحل موسكو مكان شركاء تونس الآخرين، في تلميح إلى الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.
بيد انّ المراقبين لتطورات السياسة التونسية في ظل حكم الرئيس سعيّد، يرصدون تقلبات في توجهات الديبلوماسية التونسية وشكوكا في حفاظها على استمرارية الشراكة الوثيقة التي تربطها بالغرب، إذ تتمتع تونس بوضع شريك مميز للاتحاد الأوروبي و”حليف استراتيجي” للناتو من خارج الحلف.
إذ لا يخفي الرئيس سعيّد من حين لآخر رفضه للانتقادات التي توجهها العواصم الغربية لتونس على خلفية تراجعها في مجال حقوق الانسان والحريات والانتقال الديمقراطي، وتلميحات بأنه سيوجه بوصلة السياسة الخارجية التونسية نحو موسكو وبكين.
ومن الصعب الجزم بالمدى الذي يمكن أن يمضي فيه الرئيس سعيّد في تلويحه بتغيير تحالفات تونس الاستراتيجية وإعادة صياغتها على أساس تعدد الشركاء. إذ يمكن اعتباره مثالا آخر لحكّام دول عربية عديدة أدارت ظهرها لثورات الربيع العربي، وتستجير بالدعم الروسي والصيني في مواجهة ضغوط الدول الأوروبية والولايات الولايات المتحدة واشتراطها ربط المساعدات الاقتصادية باحترام حقوق الإنسان.
وفيما يقلل بعض المحللين من جدية هذه الدعوات ويرون بأنها لا تعدو كونها صدى لخطاب شعبوي الهدف منه فقط التخفيف من الضغوط الغربية، يثير آخرون فرضية أن يؤدي النفوذ الجزائري المتزايد على سياسة الرئيس سعيّد إلى دفع تونس لتصبح جزءا من “محور جزائري روسي“.
وكيفما كانت التغييرات في سياسة تونس الخارجية، فإن تقاربها مع موسكو يمكن أن يحقق للأخيرة فرصة أخرى لتعزيز نفوذها في شمال القارة الأفريقية عبر وصل حلقات نفوذها التقليدي في الجزائر وحضورها العسكري عبر مرتزقة فاغنر في الشرق الليبي، ومن ورائها دول الساحل وجنوب الصحراء التي تشهد سلسلة انقلابات عسكرية ونزعة متنامية للخروج من النفوذ الفرنسي، بدعم خفي أو علني من موسكو.
منصف السليمي