تمكن رئيس الوزراء الإسباني المنتهية ولايته، بيدرو سانشيز، من الحصول على ثقة البرلمان لتشكيلة حكومته الجديدة، ما يضمن له ولاية جديدة من أربع سنوات. ومن أكبر الملفات الخارجية التي تواجه سانشيز، قضية العلاقات مع الجارين الخصمين، المغرب والجزائر.
وتزامن نجاح سانشيز في البقاء على رأس الحكومة، مع تعيين الجزائر لسفير لها في مدريد بعد حوالي 20 شهرا من القطيعة. ووافقت مدريد بسرعة على طلب الجزائر تعيين عبد الفتاح دغموم سفيراً لها، لإنهاء قطيعة بدأت باستدعاء الجزائر سفيرها من مدريد، احتجاجاً على دعم إسبانيا للمقترح المغربي المتعلق بالحكم الذاتي في إقليم الصحراء الغربية.
وفي الوقت الذي تضرّرت فيه العلاقات الإسبانية-الجزائرية كثيراً خصوصاً بعد تعليق الجزائر اتفاقية “الصداقة وحسن الجوار”، تحسنت فيه العلاقات المغربية-الإسبانية كثيراً، وترجم ذلك زيارتين لبيدرو سانشيز إلى المغرب مرتين ولقائه بالملك محمد السادس في إحداها، ثم نجاح البلدين إلى جانب البرتغال في الفوز بشرف تنظيم مونديال 2030، في أول تجربة أوروبية-إفريقية لتنظيم حدث ضخم مشابه.
تغيّرات إسبانية في الموقف
كان لافتاً تصريح بيدرو سانشيز، في كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر/أيلول الماضي، عندما قال بخصوص نزاع الصحراء إن بلاده “تؤيد حلاً سياسياً مقبولاً للطرفين في إطار ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن”، ولم يشر سانشيز إلى تأييده السابق للحكم الذاتي المغربي، ما جعل الجزائر تعتبر تصريحاته إشارة إيجابية.
“أمام الضغط الداخلي من طرف بقية الأحزاب بدون استثناء، وأمام الأزمة مع الجزائر التي علقت اتفاقية الصداقة وحسن الجوار مع مدريد، وعلقت وارداتها من هذا البلد الأوروبي، تغير نسبياً خطاب الأمين العام للحزب الاشتراكي العمالي الإسباني” يقول حسين مجذوبي، خبير في العلاقات الإسبانية-المغربية، ومؤلف كتاب “المغرب في الفكر الإسباني”، لـ المانيا اليوم عربية.
ويتابع المجذوبي أن سانشيز كذلك “لم يدافع عن الحكم الذاتي وسط الاتحاد الأوروبي، ولم يعد يتحدث عنه”، كما أنه “بعث بإشارات الى الجزائر بأنه يحترم الشرعية الدولية مما جعلها تعيد سفيرها”، لكن في الوقت ذاته، يستدرك المجذوبي أن سانشيز “لا يُغضب المغرب، لأن حزبه، ورغم دعم قرارات الأمم المتحدة، لم يعد سياسياً متحمساً للدفاع عن موقف جبهة البوليساريو كما كان من قبل”.
تحسنت العلاقات المغربية-الإسبانية كثيراً، وترجم ذلك زيارتين لبيدرو سانشيز إلى المغرب مرتين ولقائه بالملك محمد السادس في إحداها.
من جانبه، يقول علي صالح بن حديد، الدبلوماسي الجزائري السابق والخبير في العلاقات الدولية، لـ المانيا اليوم عربية: “الاتصالات في الكواليس لم تنقطع بين الجزائر وإسبانيا رغم القطيعة مؤخراً، وعلاقات الطرفين قوية تاريخياً، إذ لم تشهد زوابع كبيرة”.
وفي رأي بن حديد، هناك عدة عوامل أعادت علاقات سانشيز مع الجزائر إلى الواجهة، منها “انسلاخه عن الموقف الرسمي الأوروبي فيما يتعلق بالحرب على غزة، تعديله في الأمم المتحدة لموقفه في نزاع الصحراء الغربية، ثم استمرار دعوات الأمم المتحدة لأطراف النزاع بالتفاوض، وكذلك الضغوط الاقتصادية من عدة شركات إسبانية لم تكن راضية عن القطيعة، بحكم أن صادرات اسبانيا للجزائر أكثر من صادرات الجزائر نحو اسبانيا”.
وكان سانشيز قد أكد قبل أيام إن حكومته الجديدة ستعمل في أوروبا وفي إسبانيا من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو أقوى موقف داخل الاتحاد الأوروبي لصالح الفلسطينيين، منذ بدء التصعيد الأخير.
وذكرت افتتاحية إلباييس الإسبانية، أن عودة السفير الجزائري إلى مدريد أملتها أسباب أخرى منها “البحث عن حلول مشتركة للمشاكل المشتركة، من الهجرة غير الشرعية إلى انتشار التنظيمات الجهادية في منطقة الساحل، وطموح الجزائر إلى تنويع اقتصادها”. وتضيف الصحيفة أن استئناف العلاقات إيجابي للشركات الإسبانية وكذلك للجزائرية، وأنه “يجب إعادة تفعيل معاهدة الصداقة بين البلدين”.
العلاقات الشائكة مع الجارين الخصمين
شهدت علاقات إسبانيا مع جاريها الجنوبيين مداً وجزراً في عدة سنوات، خصوصاً مع المغرب. أزمة عام 2021 كانت فارقة، عندما احتجت الرباط بقوة على سماح إسبانيا لزعيم البوليساريو إبراهيم غالي بالعلاج لديها، وهو ما رأته دوائر في الرباط استمراراً لسياسة إسبانية “عدائية”، ومن نتائج التوتر تدفق آلاف المهاجرين على مدينة سبتة، واتهمت مدريد حينها المغرب بـ”الابتزاز”.
عودة إبراهيم غالي من إسبانيا بعد العلاج وزيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون له في المستشفى عام 2021
لكن ذلك التوتر تحول إلى صفحة طُويت، وانتقل إلى الجانب الجزائري، التي رفضت دعم إسبانيا لمقترح الحكم الذاتي، ووصل الأمر حدّ تهديد الجزائر بفسخ عقد تزويد إسبانيا بالغاز إن هي نقلت جزءا منه إلى المغرب، ما جعل الجزائر تبين أنها طرف في نزاع الصحراء، رغم أنه كانت تشير سابقاً إلى أنها “طرف ملاحظ”.
“الجزائر بطريقة أو بأخرى هي طرف في النزاع. ولولا دعم الجزائر، لم يكن أساسا ممثلو الجمهورية الصحراوية (غير معترف بها أممياً أو أوروبياً) ليحضروا في الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي”، يقول بن حديد، مضيفاً: “كانت هناك خيبة أمل جزائرية من إسبانيا بحكم أنها كانت تتماشى سابقا مع توجهات الجزائر بدعم حقوق الشعب الصحراوي وفجأة انقلبت”.
في جانب آخر يقول مراقبون إن إسبانيا على المستوى الرسمي حاولت تاريخيا البقاء في خط الحياد في النزاع، لكن المفاجأة من موقف سانشيز بخصوص الدعم الذاتي يعود، حسب ما تؤكده إلباييس في كون حزبه الاشتراكي كان داعماً لمطالب البوليساريو في الأمم المتحدة.
“لم تنجح اسبانيا في إرساء علاقات متوازنة مع كل من المغرب والجزائر، شأنها شأن فرنسا في سياستها تجاه البلدين” يتحدث حسين مجذوبي، مضيفاَ: ” قد يحدث التوازن أحياناً لكنه يبقى مزيفاً، يرتبط بموقف الحزب الحاكم في مدريد ونوعية المصالح في فترة معينة”.
ويوضح: “المغرب يكتسب أهمية قصوى في الأجندة الإسبانية أكثر من الجزائر، لكن الإسبان عملوا على إرضاء الجزائر في بعض الملفات ومنها ما حصل الآن في الصحراء، لكون الجزائر هي مصدر الغاز الرئيسي الذي يعدّ سلاحا في الوقت الراهن”.
توازن في المستقبل
تبقى العلاقة المغربية-الإسبانية أكثر تعقيداً من نظيرتها الجزائرية-الإسبانية، بحكم أن إسبانيا كانت مستعمراً سابقاً لأجزاء كبيرة من المغرب، واستمرار الخلاف الصامت حول سبتة ومليلية، فضلاً عن خلافات أخرى حول ترسيم الحدود البحرية. لكن حالياً توجد العلاقات في أفضل حال، وأكدت مدريد قبل أيام أن هذه العلاقات استراتيجية.
ورغم تطوّر العلاقات المغربية-الإسبانية، يستبعد مجذوبي تحقيق استقرار فيها ويؤكد أنه “استقرار مؤقت”، قائلاً: “في الكثير من المحطات التاريخية تم الحديث عن استقرار العلاقات، لكن ما يلبث أن تنفجر مجددًا لخلافات في قضيىة الصحراء وجيبي سبتة ومليلية ومحاربة المخدرات والهجرة، وكذلك تنامي خطاب اليمين المتطرف الإسباني العدائي تجاه المغرب”.
من جهته يقول بن حديد إن إسبانيا ستحاول مستقبلاً “الحفاظ على علاقة متوازنة مع المغرب والجزائر دون الميل لأيّ طرف”، مشيراً إلى أهمية المغرب بالنسبة لإسبانيا، وكذلك الحال بالنسبة للجزائر، بحكم “حاجة أوروبا للغاز الطبيعي الجزائري، وكذلك موقع الجزائر الجغرافي، وحصولها مؤخرا على مقعد غير دائم في مجلس الأمن”.
إ.ع