جنوب لبنان.. النزوح أم البقاء تحت رحمة القصف وخطر الموت؟ | سياسة


الطريق إلى جنوب لبنان ليس كأي طريق في لبنان. من بيروت يمر الطريق جنوبا بمدينة صيدا، هناك لا يمكن تجنب المرور بمخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين. أكملنا الطريق جنوبا إلى صور، على جوانب الطرقات عُلقت صور لقتلى سقطوا من  حزب الله  . في مدينة صور تبدو الحياة طبيعية إلى حد ما، عدا أن عددا كبيرا من النازحين من قرى الجنوب هربوا إلى المدينة خوفا من التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله .

بعد مدينة صور صارت الإجراءات الأمنية أكثر صرامة، عشرون كيلومترا تبعد المدينة عن الحدود مع إسرائيل، وأصوات الانفجارات تسمع من بعيد. حركة الناس والحياة تتغير تدريجيا مع كل كيلومتر، وتخلو شوارع القرى والبلدات المتناثرة بين الوديان أو على سفوح التلال تدريجيا من الناس كلما اقتربنا من الحدود.

بنت جبيل: “هذه أرضنا ولن نرحل عنها”

كثير من سكان البلدة الواقعة على بعد مئات الأمتار فقط من الحدود  مع إسرائيل قد غادروها . بقي البعض منهم ممن اعتادوا القصف، كما تقول سيدة تشتري من محل البقالة الوحيد الذي لا تزال أبوابه مفتوحة، ففي البلدة بقي مخبز واحد ومتجر واحد ومحل بقالة واحد. وكل المحال المتبقية أغلقت أبوابها وقد قصد الكثيرون من الذين غادروا أقاربهم في شمالي البلاد بعيدا عن قصف الجيش الإسرائيلي.

مزارعوا المواشي يشتكون من نقص العلف بسبب صعوبة التنقل على ضوء تصاعد القتال في الجنوب.

لم نكد نصل البلدة حتى ظهر رجال يسألونا عما نفعل هنا، ولأي قناة نعمل. كانوا يتكلمون بصرامة لكن بأدب، ثم جاء رجل من بلدية البلدة فانسحب هؤلاء الرجال، طلب موظف البلدية هوياتنا، وتركنا نتجول ونسأل الناس.

في مطعم خال من الزبائن يجلس صاحبه مع رجل مسن، قال مبتسما “الله يحفظكم”، فالتعاطف أصبح كبيرا بعد مقتل  صحفية ومصور لبنانيين  قبل أيام في قصف إسرائيلي، ثم سألني من أين أنا وفي أي قناة أعمل. سألت الرجل السبعيني عما يبقيه في ظل ظروف القصف والتوتر الأمني على الحدود وبلدته لا تبعد عن الحدود سوى مئات الأمتار خلف تلة مارون الراس! قال إنه لن يغادر، “بعض الناس غادروا، فقد أغلقت المتاجر أبوابها وانقطعت سبل العيش في مجال الزراعة”، ثم أردف “البعض يبقى لأنه يرغب في الصمود، هذه أرضنا ولن نرحل عنها”.

 عند المخبز شاهدت الصغير علي، طفل سوري لاجئ فر من الحرب في بلاده، بل الأحرى ولد لاجئا، فعمره تسع سنوات تقريبا، أي أصغر من عمر الحرب في سوريا. يعيش مع أسرته في بلدة بنت جبيل، يلعب هنا وهناك يراقب المارة، شاهدنا نتجول ونحن نرتدي ملابس واقية من الرصاص ونحمل كاميراتنا، أثرنا فضوله فبدأ يسألنا ويتحدث معنا.

صور بعض الضحايا حتى على الدراجات النارية.

“أطفالي .. أرضي”

من يمر في جنوب لبنان يرى الفقر واضحا على ساكنيه، كما يرى صور القتلى الذين يقول الناس إنهم (شهداء) معلقة في كل شارع، بجانب صور رجال الدين الشيعة في لبنان، والقيادات السياسية الشيعية، بالخصوص صور الإمام موسى الصدر في كل مكان تقريبا. في الطرقات بين القرى شيدت منازل فخمة على سفوح التلال، مبنية من الحجر أو الرخام، أصحابها غالبا من المغتربين، وعلى الرغم من الوضع الحذر والقصف القريب يجلس شاب يلوح بحزمة كبيرة من الليرات اللبنانية، يستبدل العملة على الطريق.  الليرة خسرت الكثير من قيمتها   والمئة دولار تعادل تسعة ملايين ليرة.

بعض سكان القرى لم يغادروا أرضهم، إما بسبب مواشيهم أو بسبب قطاف الزيتون. فموسم الحصاد جاء بنفس توقيت  الحرب في غزة والتصعيد العسكري في الجنوب.

علي صبرة رجل في بداية الخمسين، يبدو أكبر بكثير من عمره، قصير القامة ممتلئ الجسد يقف بثقة وثبات على الأرض حين يحرك جسده بخفة. يعيش مع أسرته ولم يترك أرضه، حقله ومواشيه في بلدة مجدل سلم التي تبعد مئات الأمتار فقط عن مستوطنة كيرات شمونا الإسرائيلية الواقعة خلف الحدود، من البلدة الصغيرة يمكن مشاهدة جبل الشيخ في   الجولان السوري المحتل.

يطلب المزارع الخمسيني أن ننقل رسالة إلى وزارة الزراعة بأن أصحاب المواشي بحاجة إلى دعم من خلال توفير العلف، بسبب صعوبة النقل الآن نتيجة الأوضاع الأمنية الصعبة. سألناه إن كان أطفاله يذهبون إلى المدارس في ظل هذه الظروف؟ أجاب بنعم. ثم أردف قائلا: “حين نسمع أصوات القصف لا نعلم إن كان القصف قد طالهم أم لا”. وحين سألناه عن سبب بقائه هنا رغم خطورة الوضع الأمني عليه وعلى أطفاله، أجاب: “وهل أطفالي أغلى من أرضي؟”.

أكثر من 16 ألف نازح من الجنوب يعيشون الآن في مدينة صو، ما يشكل تحديا لإدارة المدينة الصغيرة

نازحون على أرضهم

أكثر من 45 ألفا من سكان قرى وبلدات جنوب لبنان تركوا منازلهم وقراهم نازحين إلى الشمال. والشمال ليس ببعيد، فمدينة صور تبعد عن مساكنهم أقل من 20 كيلومترا وتبعد صيدا نحو نصف ساعة بالسيارة، أما بيروت فتقع على مسافة ساعة تقريبا على الطريق السريع.

في صور تجاوز عدد النازحين 16 ألفا، زرنا مباني مهجورة، مباني جامعات تركت مهجورة انتقلت إليها غرفة طوارئ صور، هناك شكلت غرفة عمليات لاستقبال النازحين. وفي المباني المجاورة يسكن نازحون من قرى الجنوب. أسر تركت كل ما تملك خلفها وتعيش منذ أكثر من شهر في هذه المباني، قاعات المحاضرات تحولت إلى غرف للنوم، قاعة لكل أسرة. الحمامات مشتركة. والساحات فارغة إلا من بعض الأطفال الذين يلعبون بإطارات السيارات. 

في مكان وسط الساحة تحت ظل سيارة جلست الصغيرة فاطمة، تتناول المعكرونة. تبتسم بصعوبة، تتناول طعامها ولا تأبه بي وبكاميرتي، تبدو وكأنها تفكر بعمق، تبحث عن أجوبة لأسئلة تدور في رأسها الصغير. صغيرة تعاني من النزوح وترك المدرسة والخوف من أصوات القنابل التي تصل إلى هنا أيضا. فخطوط التماس ليست بعيدة، 20 كيلومترا، قصف قوي حدث فجأة في الجنوب، شاهدنا الدخان المتصاعد من هناك خلف الجبال والتلال، وموجة القصف شعرنا بها على بعد 20 كيلومترا. علمنا بعدها أن القصف طال منزلا كان يضم سبعة من مقاتلي حزب الله، بينهم نجل رئيس كتلته البرلمانية النائب محمّد رعد. وكنا قد مررنا على الطريق قبل ساعة من القصف.

أغلب النازحين في مدارس صور من المزارعين والفقراء، ممن لا يملكون أقارب في المدن الأخرى يلجأون إليهم، فلجأوا إلى المدارس، وتحاول غرفة الطوارئ في اتحاد بلديات صور ترتيب أوضاعهم.

رغم ذلك فإن النقص في المواد الغذائية وأساسيات العيش كبير. تجلس سيدة في قاعة دراسية، جدة تشتكي من مشاكل في كليتيها، رغم الألم تشكر اتحاد البلديات لما يقوم به، وتشكو من نقص في المواد الغذائية ومستلزمات الحياة من غاز وغيره للطبخ. تقول: “في الفترات الماضية ربما الأمور كانت أفضل”. وفر اتحاد البلديات فراش من الأسفنج لكل فرد. الطعام غالبا هو المعكرونة. تقول السيدة التي لا يفارقها حس الفكاهة رغم آلام العيش والنزوح : “لا أدري ماذا أطلب منهم أن يوقفوا القتال أم المعكرونة”؟

نازحة من الجنوب ممتنة لتقديم المساعدات وتشتكي من ضعفها وتقول: أيام زمان ربما كانت الأمور أفضل عندما كنا نطبخ على نار الحطب.

عودة مؤقتة

بعد نزوح امتد لأسابيع، عاد بعض النازحين بلهفة إلى قراهم، عبد الله عبد الله عاد إلى عيترون الحدودية، ليجد فجوات ضخمة خرقت جدران منزله، وأشجار حديقته أتت عليها النيران، فيما انتشرت شظايا القذائف من حولها. يعجز عبدالله (50 عاماً) عن التعبير عن حزنه، إذ لم تقتصر الأضرار على منزله المؤلف من طابقين، بل طالت أيضاً مصدرَي رزقه: جراره الزراعي والحافلة التي كان ينقل على متنها طلاب إحدى مدارس المنطقة. يضع عبدالله يديه في جيبي بنطاله، ينظر من حوله بحسرة، ويردد “الجرار الزراعي تدمّر، والحافلة أيضاً، وهذا منزلي وقد انهارت أجزاء أساسية منه”.

وعلى طول الحدود، بدت آثار القصف الإسرائيلي واضحة، من جدران منازل مدمرة أو زجاج نوافذ وأبواب محطمة، او حفر في الأرض خلّفتها الغارات. مثل عبد الله، عاد سكان لتفقد منازلهم وممتلكاتهم على وقع تحليق طائرات الاستطلاع، لكن كثيرين لا يريدون البقاء خشية استئناف القصف المتبادل بعد انتهاء هدنة الأيام الأربعة التي دخلت حيز التنفيذ الجمعة في قطاع غزة.

بيروت .. “الهوى سلطان”

من يزور الجنوب ويعود إلى   بيروت  يظن أنه كان في بلد آخر، في مقهى بيروتي في حي راق تسمع في المساء أصوات لعبة النرد، ويجلس مرتادوه من نساء ورجال يلعبون الورق، يتصاعد دخان الشيشة، ويتحرك بخفة هنا وهناك “الأرغلجي”. صار موظف المقهى حسن يتوجه إلي مباشرة حين آتى لشرب الشاي في مساء بيروت الذي لا يزال دافئا بعيدا عن شتاء أوروبا القارس. بعد أن علم أنني صحفي، سألني حسن عن سر غيابي منذ مساء أول أمس، أجبته بأنني كنت في الجنوب، وزرت بلدة بنت جبيل. قال إنه من هناك، وقد جاء بأهله وأقاربه إلى منزله حتى تهدأ الأوضاع الأمنية. سرح بعينيه فيما يسمع من الخلف صوت المطرب يغني “الهوى سلطان”، متسائلا: “متى نعيش بسلام؟”.

 



(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
اضف تعليق
Comments (0)
Add Comment