منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر، تتعرض القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي المنتشرة في العراق وسوريا لهجمات متواصلة تبنى أغلبها ما يسمى بـ”المقاومة الإسلامية في العراق” والتي تجمع فصائل حليفة لإيران.
وتعرضت القواعد الأمريكية على الأراضي العراقية والسورية لما يزيد على 110 استهدافات منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، حيث تندد الميليشيات العراقية بالدعم الأمريكي لإسرائيل في حربها.
وغداة ضربة أمريكية في بغداد أودت بحياة مشتاق طالب السعيدي (أبو تقوى) القيادي بالحشد الشعبي، جدّدت الحكومة العراقية موقفها حيال إنهاء وجود التحالف الدولي على أراضيها، الأمر الذي أكدت إيران أنها تدعمه بشدة.
اتفاق على الخروج.. وليس طرداً!
وقال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في تصريحات لوكالة رويترز اليوم (10 يناير/كانون الثاني 2024)، إن العراق يريد خروجاً سريعاً ومنظماً للقوات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة من أراضيه عن طريق التفاوض لكنه لم يحدد موعداً نهائياً، ووصف وجود تلك القوات بأنه مزعزع للاستقرار في ظل التداعيات الإقليمية لحرب غزة.
وأضاف أن هناك “ضرورة لإعادة ترتيب هذه العلاقة بحيث لا تكون هدفاً ومبرراً لأي جهة داخلية أو خارجية للعبث باستقرار العراق والمنطقة” وأن الخروج يجب أن يتم التفاوض عليه في إطار “عملية تفاهم وحوار”
وتابع: “لا نريد أن يكون إنهاء التحالف وكأنه عملية طرد لهذه القوات وإلا “سوف نشهد المزيد من اتساع ساحة الصراع في منطقة حساسة للعالم تمثل ثقلاً لإمدادات الطاقة، وأيضاً هذا الموضوع برمته هو يؤدي إلى زيادة التطرف والعنف، ليس في هذه المنطقة، في كل دول العالم”.
لكن المثير للتساؤل هو كيف ستتعامل الحكومة العراقية مع الأمر، فقوات الحشد الشعبي بمكوناتها المختلفة هي جزء من القوات المسلحة العراقية، تأتمر بإمرة القائد العام للقوات المسلحة.
ويرى حمزة حداد الباحث بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وخبير الشؤون العراقية أن خروج القوات الأمريكية من العراق أمر ليس بالصعوبة التي قد يتصورها البعض، “ومن المرجح أنه لن يتطلب سوى خطاب لأن القوات الأمريكية موجودة هناك بناء على دعوة من الحكومة العراقية”.
وأضاف حداد في حوار مع المانيا اليوم عربية أنه في حين أن الوضع الأمني مختلف اليوم، ووجود قوات أجنبية في العراق بصفة استشارية بدعوة من الحكومة العراقية منذ عام 2014، إلا أنها ليست موجودة بشكل دائم”.
انقسام.. أم تبادل للأدوار؟
يرى خبراء أن الشكل الظاهري للأمور في العراق يشير إلى وجود انقسام سياسي داخل الحكومة العراقية، فهناك تيار يضرب في القواعد العسكرية الأمريكية، في حين أن هذا التيار ممثل داخل الحكومة العراقية والتي لها علاقات قوية للغاية مع الولايات المتحدة.
ويعتقد أبو فراس الحمداني الكاتب والمحلل السياسي العراقي من أمستردام أن “هذا جزء من تقاسم النفوذ بين إيران والولايات المتحدة والصراع القائم في المنطقة بينهما، وما يحدث الآن هو جزء من تداعيات الحرب في غزة وأيضاً جزء من اللعبة السياسية الكبرى في العراق”.
ويضيف المحلل السياسي العراقي في حوار له مع المانيا اليوم عربية أن النظام السياسي القائم الآن في العراق بدأ بتقاسم النفوذ بين إيران والولايات المتحدة .. تقاسم جغرافي وتقاسم للمناصب وتقاسم للنظام السياسي، والدليل على ذلك إنه لا يمكن تعيين رئيس وزراء في العراق إلا بعد أن ترضى عنه واشنطن و طهران”.
وأوضح أنه رغم كل تلك السنوات من الوجود الأمريكي في العراق إلا أنهم – الأمريكيون – ليس لديهم شعبية في العراق، فهم خلال عقدين لم يساهموا في البناء ولا الإعمار ولا التطوير، ولم تُخلق شراكات بين الشعبين، وكل ما قاموا بعمله هو دعم للنظام السياسي ولسياسيين فاسدين”، بحسب ما قال.
ويوضح الحمداني أنه “مثلما يطالب البعض بخروج الولايات المتحدة من العراق، فإن هناك أيضاً من يطالب بخروج إيران، لأن الشعب العراقي يدفع ثمن هذا الصراع، فإذا اتفقوا دفعنا ثمن، وإذا اختلفوا دفعنا دماء وبالتالي فالعراقيون هم الخاسرون على طول الخط”.
وقال الخبير العراقي إن مسألة تقاسم الأدوار مفهومة بشكل ما بل ويمارسه كل الأطراف، “فهناك رجال لأمريكا في العراق وهنالك رجال لإيران في العراق، وهناك إعادة تموضع ويحكم كل ذلك المصالح، لكن في الوقت نفسه هناك أناس وطنيون في كل هذه المكونات وعندهم هدف واضح، وهو استقلال العراق وسيادته بعيداً عن أمريكا وإيران”.
مزيد من سقوط العراق بين يدي إيران؟
ومن المرجح أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى زيادة القلق في واشنطن بشأن نفوذ “العدو اللدود” إيران على النخبة الحاكمة في العراق. ويقول محللون إن أغلب الفصائل التي تهاجم القوات الأمريكية تدين بالولاء بشكل أو بآخر لإيران، ما قد يجعل العراق يقترب في موقفه من الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة والمعادية للوجود الأمريكي.
ويخشى خبراء من أن الرفض الحكومي العراقي لاستهداف واشنطن لميلشيات في الداخل العراقي قد يجعل القرار العراقي أكثر قرباً – أو ربما ارتهاناً – للقرار الإيراني. وفي هذا السياق يقول أبو فراس الحمداني المحلل السياسي العراقي إن “الحكومة العراقية جاءت نتيجة توافق إيراني أمريكي نتيجة لتقاسم النفوذ بين أمريكا وإيران”.
ويقول محللون إن الثمن الذي يدفعه العراق حالياً بسبب الإخفاق الأمريكي هو مزيد من سقوط العراق بين يدي إيران ويزيد من نفوذ طهران في الساحة العراقية سياسيا وعسكرياً.
لكن الحمداني لا يتفق مع هذا الرأي وقال “إن هذا القول يختلف عن الرغبة على مستوى الشارع العراقي وعلى المستوى السياسي، فمثلاً على مستوى الشارع هناك رغبة حقيقية – لدى الشارع الجنوبي تحديداً – في انطلاقة عراقية سياسية بعيداً عن حكم الإسلام السياسي، وفتح أبواب الحرية وأجواء البناء والعمران والانعتاق من بعض الهيمنة الإيرانية”.
وقال الحمداني إنه طالما بقي الإسلام السياسي يحكم في العراق فلن يتغير شيء، حتى مع جهود زعماء محليين وطنيين لديهم قواعد شعبية كبيرة تدعمهم في هذا الشأن ولديهم رغبة حقيقية في تحرير القرار السياسي العراقي.
مستقبل العلاقات الأمريكية العراقية
رغم العلاقات الأمريكية – العراقية القوية، لكن الوجود العسكري الأمريكي في العراق دائماً ما كان محوراً للنقاش المستمر داخل العراق. ومع عودة الحديث عن ضرورة مغادرة القوات الأمريكية للعراق – وهو الحديث الذي تكرره كل الحكومات العراقية دون الوصول لقرار حقيقي بهذا الشأن – يرى محللون أن الأمر يكتسي ملامح الجدية الشديدة هذه المرة، فكيف يمكن أن يؤثر ذلك على العلاقات بين البلدين؟
يقول أبو فراس الحمداني المحلل السياسي من أمستردام إن “القول في السر غير القول في العلن، وما يقال في الإعلام غير ما هو موجود على طاولة الحوار وفي الغرف المغلقة”، مشيراً إلى اعتقاده بأنه “سيتم الوصول إلى صفقة تخرج بموجبها قوات أمريكية مقاتلة من العراق على أن يبقى بعض المستشارين”.
وأضاف المحلل السياسي العراقي أن “الأمن القومي الأمريكي يعتمد الآن على الضربة الاستباقية، والتحكم عن بعد، وبالتالي أعتقد أن أمريكا لا تحتاج لقواعد عسكرية في العراق، بقدر ما هي في حاجة لاستمرار تحكمها بالاقتصاد العراقي والسياسة العراقية”.
وقال إنه من الصعب إخراج أمريكا من العراق بشكل كامل “لكن يمكن إضعاف دورها، خاصة وأن واشنطن لم تستثمر بالمواطن العراقي، بل استثمرت في الوسط السياسي وخلقت سياسيين، ودعمت نظام سياسي عليه علامات استفهام، وبالتالي فهي تدفع ثمن ما زرعته في السنوات السابقة”.
أما سجاد جياد، الباحث في “مؤسسة القرن” ومؤلف كتاب “رجل الله في العراق” فيرى أن “العراق لا يحتاج إلى القدر نفسه من الدعم الذي كان يحتاجه في الماضي.. ربما يمتلك العراقيون اليوم قدرات كافية لمنع تنظيم الدولة من شن تمرد كبير مرة أخرى”.
وأشار جياد في حوار مع المانيا اليوم عربية إلى أن الولايات المتحدة ترى في العراق مكانًا يمكنها من خلاله مواجهة النفوذ الإيراني، كما أن قواعدها في العراق تخدم أغراض الإستراتيجية الأمريكية.. لكن المشكلة تكمن في أن الحكومة لا تستطيع منع الميليشيات المدعومة من إيران من مهاجمة المصالح الأمريكية. ولا يمكنها منع الولايات المتحدة من الانتقام أيضًا”. وأضاف أن “أي شن ضربات جوية أو تنفيذ لاغتيالات دون إذن عراقي يمثل مشكلة كبيرة ويضع الحكومة العراقية في موقف صعب للغاية.”
ويعتقد جياد أنه إذا رحلت الولايات المتحدة بشكل دائم، أو إذا أُجبرت على الخروج، فإن ذلك قد يغير بعض الأمور نحو الأسوأ بالنسبة للعراق، كما أن الولايات المتحدة، باعتبارها حليفاً قوياً، قد تنظر للعراق بشكل مختلف ما قد يؤدي لمشكلات متعددة بما في ذلك التهديد بفرض عقوبات، واحتمال احتجاز المليارات من الاحتياطيات الأجنبية العراقية الموجودة حالياً في الولايات المتحدة، وعدم تقديم المزيد من المساعدات العسكرية.
رئيس الوزراء العراقي أكد من جانبه أن “إنهاء وجود القوات سيمنع المزيد من التوترات وتشابك الملفات الأمنية الداخلية والإقليمية”. وأضاف أن العراق منفتح على إقامة علاقات ثنائية والانخراط في تعاون أمني مع دول التحالف لا سيما الولايات المتحدة، وقد يشمل ذلك التدريب وتقديم المشورة لقوات الأمن العراقية وكذلك شراء الأسلحة.