مع انقضاء عام 2023 يكون المهاجر القادم من بنين محمد أول صالح قد أمضى في تونس أربع سنوات دون أن يحقق هدفه من القدوم إلى هذا البلد: العبور إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.
وتكشف بيانات تحصلت عليها المانيا اليوم عربية من وزارة الداخلية أن حوالي 90 ألف من مهاجري جنوب الصحراء تدفقوا على تونس هذا العام بشكل غير مسبوق، سواء براً عبر الحدود الشرقية مع ليبيا أو غرباً عبر الحدود مع الجزائر قادمين من طرق صحراوية تمتد إلى دول جنوب الصحراء.
وبينما نجح الآلاف، انطلاقاً من سواحل ولاية صفاقس أساساً، في الوصول إلى وجهتهم نحو الجزر الإيطالية القريبة ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، فإن محمد أول صالح الذي قدم من ليبيا إلى تونس لا يزال يتطلع إلى فرصة لتحقيق حلمه رغم المتاعب التي تواجهه.
ويروي الشاب لـ المانيا اليوم عربية: “جئت إلى تونس بحثاً عن الحرية. لكن الوضع في ليبيا كان أفضل من هنا. أريد العبور إلى إيطاليا ولا أستطيع العودة إلى بلدي بنين لأنني بعت أرضي هناك ولم أعد أملك شيئاً”.
ومثل محمد أول صالح تقطعت السبل بعدد كبير من المهاجرين الذين تم إبعادهم من وسط مدينة صفاقس إلى الضواحي الريفية قبل أشهر عقب اضطرابات اجتماعية وأعمال عنف مع السكان المحليين.
أحدث تدفق المهاجرين على تونس طفرة كبيرة في موجات الهجرة غير النظامية المنطلقة نحو إيطاليا، لتتحول السواحل التونسية لنقطة انطلاق للوصول إلى جزيرتي لامبيدوزا وصقلية الإيطاليتين بدلاً من السواحل الليبية كما كان الأمر في السنوات السابقة.
وإجمالاً وصل السواحل الإيطالية حتى الأسبوع الأول من هذا الشهر أكثر من 152 ألف مهاجر أغلبهم من سواحل تونس، وفق بيانات وزارة الداخلية الايطالية، وهو رقم أعلى مما تم تسجيله في نفس الفترة في عام 2022 (قرابة 95 ألفاً) وفي عام 2021 (63 ألفاً).
لماذا تونس؟
تنحدر النسبة الأكبر من المهاجرين في تونس من دول أفريقيا جنوب الصحراء. فما تفسير ذلك؟ يقول رمضان بن عمر الناشط والعضو في “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” الذي يهتم بقضايا الهجرة لـ المانيا اليوم عربية: “الدول الأوروبية أغلقت الطرق التقليدية للهجرة في شرق حدود دول التكتل وغربها وشددت المراقبة على السواحل الليبية. كما لجأت إلى تقديم المساعدات وإبرام اتفاقيات ثنائية وتعزيز الأسيجة على الحدود”.
ويمضي الخبير في تفسيره: “المهاجرون وجدوا طريقاً بديلة وناشئة عبر تونس مستغلين هشاشة الأوضاع في البلاد والأزمة السياسية، عكس ذلك سوء إدارة السلطات لهذا الملف، وهو ما فجر أزمة اجتماعية مع مهاجري جنوبي الصحراء في فبراير(شباط) 2023”.
وللدلالة على هذه الطفرة تفيد السلطات التونسية بأن الحرس البحري منع حوالي 55 ألف مهاجر من دول أفريقيا جنوب الصحراء وحدها من الوصول إلى السواحل الأوروبية، منذ بداية 2023 وحتى بداية شهر كانون الأول/ديسمبر.
ويناهز إجمالي من تم اعتراضهم، بما في ذلك التونسيين، حوالي 70 ألف مهاجر بجانب إيقاف ما يفوق 1600 من وسطاء ومهربي البشر ومداهمة العشرات من ورش صناعة قوارب التهريب.
علاقات متأرجحة بين تونس والاتحاد الأوروبي
لكن هذه الفعالية في مكافحة الهجرة غير النظامية لم تأت من فراغ. فقبل تحقيق هذه الأعداد مرت العلاقات بين تونس وشريكها الاقتصادي الأول، الاتحاد الأوروبي، بواحدة من أسوأ فتراتها منذ سنوات طويلة، ليس فقط بسبب الانتقادات الأوروبية تجاه التحولات السياسية التي عرفتها تونس منذ استحواذ الرئيس قيس سعيد على أغلب السلطات في 2021، ولكن أيضاً بسبب تباين وجهات النظر في تفعيل مذكرة تفاهم جرى توقيعها منذ تموز/يوليو 2023 لكبح موجات الهجرة غير النظامية مقابل حوافز اقتصادية ومالية سخية تحت غطاء “الشراكة الشاملة”.
وفي مسعى لفهم نقاط الخلاف، قال وزير الداخلية التونسي، كمال الفقيه، في مقابلة حصرية مع المانيا اليوم في مكتبه بالوزارة إن “الاتفاق حديث ولم ير النور بعد باعتبار أننا لم نمر إلى تفعيله وعلى الأوروبيين أن يكونوا أكثر مرونة في التعامل معه”.
الفقيه شدد أيضاً على أن “تونس شريك مميز للاتحاد الأوروبي وبالتالي فإن منحها جرعة من المساعدات التي تمكنها من الخروج من حالة الركود الاقتصادي، هي من الإجراءات التي تسرع عملية إنجاز الاتفاقات بما في ذلك المساعدة المتفق عليها في خصوص دعم الميزانية السنوية للدولة التونسية”.
من جانبه لم يفوت وزير الخارجية، نبيل عمار، في أكثر من لقاء مع مسؤولين اوروبيين ورؤساء المنظمات الدولية، وآخرها المديرة العامة لمنظمة الهجرة الدولية، إيمي بوب، في جنيف، من أجل المطالبة بـ”تضامن أكبر في مكافحة الهجرة غير النظامية باعتبارها مسؤولية مشتركة لا يمكن لأي دولة تحملها بمفردها”.
مع ذلك أقرت ايطاليا بأن أعداد المهاجرين غير النظاميين الوافدين على سواحلها أخذت في الانحسار بشكل كبير في شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر لتبلغ أدنى مستوياتها، على الرغم من التحفظات التونسية المعلنة بعد أشهر من التوقيع على مذكرة التفاهم.
ومع أن الخبير في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر أرجع في حديثه مع المانيا اليوم عربية، تقلص الهجرة إلى حالة الطقس وتشديد السلطات للرقابة على الحدود بجانب الحملات الأمنية على معاقل مهربي البشر وورشات تصنيع القوارب التقليدية في صفاقس وغيرها من المدن الساحلية، إلا أنه في نفس الوقت لم يستبعد تأثيرات مذكرة التفاهم.
“توافق هش”
وفي كل الحالات تسيطر حالة من الارتياح على المواقف الأوروبية بشأن تقلص أعداد المهاجرين رغم الأزمة الصامتة مع تونس، وقد أشاد وزير الخارجية الإيطالي، انطونيو تاياني، بجهود السلطات الأمنية في تونس في إفادة له أمام لجنة برلمانية، مضيفاً أن المذكرة الموقعة “تسير بشكل جيد”، وهو ما أشار إليه مسؤولون من البعثة الأوروبية بتونس في تصريحاتهم لوسائل الإعلام المحلية.
لكن من غير الواضح إلى أي مدى سيصمد هذا “التوافق الهش” بعد تصريحات كشفت فيها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، عن الاستعداد لتعزيز استخدام “فرق العمل العملياتية” على طول الطريق النشط وسط البحر الأبيض المتوسط، حيث من المتوقع أن تلعب فيها الدول الشريكة لإيطاليا دوراً محورياً، وهذه خطوة لا تجد قبولاً واسعاً في تونس.
وفي حال اعتماد هذه الخطة فإنها قد توجه ضربة قوية لآمال المهاجرين المرابطين على سواحل تونس، حيث ضاعف فصل الشتاء من محنة الكثيرين منهم المنتشرين في المزارع والشوارع بالمناطق الريفية حول صفاقس، دون أفق واضح.
ويشير الشاب البينيني محمد أول صالح في قلق لـ المانيا اليوم عربية: “نعيش اليوم في حقول الزيتون بصفاقس، لكن مع هطول الأمطار لا نعرف أين يمكننا أن نحتمي. لقد أصبح الوضع أكثر صعوبة حتى فيما يتعلق بطعامنا. في السابق كنا نشتري “طبق العصيدة” (أكلة شعبية تونسية) بـ80 سنتاً، واليوم حتى بدينار ونصف لا نستطيع شراءها. حتى الماء هنا في صفاقس غير صالح للشرب”.
وعلى الرغم من أن الكثير من المهاجرين يوفرون يد عاملة رخيصة لأرباب العمل في عدة مدن تونسية، إلا أن وزير الداخلية كمال الفقيه قال إن تونس لا يمكنها استيعاب سوى عدد ضئيل ممن يرغبون في الاستقرار في البلاد، وذلك لأن الدولة ليست في وضع ازدهار اقتصادي مستدام، على حد تعبيره.
ويقول محمد أول صالح بنبرة يائسة، إنه لم يبق له من خيار سوى العودة إلى بنين، لكنه لا يستطيع فعل ذلك لأنه فقد كل شيء يملكه هناك.
تونس – طارق القيزاني