تطورات متسارعة في الدول الجنوبية للجزائر، بعد إعلان المجلس العسكري الحاكم في مالي، إنهاء اتفاق الجزائر للسلام الذي وقعته الحكومة آنذاك مع الانفصابيين، بأثر فوري، كما اتهم المجلس الجزائر بالقيام بـ”أعمال عدائية وبالتدخل في شؤون البلاد الداخلية”.
بعد ثلاثة أيام على هذا القرار، أعلنت مالي إلى جانب بوركينا فاسو والنيجر، انسحابها بمفعول فوري من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، بمبرّر أن هذه المجموعة “تخون مبادئها التأسيسية وباتت تشكل تهديداً لدولها الأعضاء وشعوبها، وهي تحت تأثير قوى أجنبية”.
ويرى سليمان الشيخ حمدي، الخبير الموريتاني في شؤون الساحل والصحراء، أن “الهدف هو توجيه رسالة للداخل من أنهم يتعرضون لمؤامرة كبيرة، وبالتالي سيستغلون الخلاف مع الجزائر لمحاولة رصّ الصفوف الداخلية وتوحيد المعارضة خلفهم، لأجل محاولة استعادة هيبة الدولة المالية”.
ويتابع الشيخ حمدي لـ المانيا اليوم عربية أن العسكريين في باماكو يتذرعون بأن اتفاق 2015 جرى في إطار حكومة ضعيفة قدمت تنازلات كبيرة للمسلحين، والآن يمكن وقف هذا الاتفاق وفرض سيادة كاملة، خصوصاً مع الدعم الروسي ومع محاولتهم السيطرة العسكرية التامة على البلد”.
نهاية اتفاق دعمته الجزائر
لعبت الجزائر دوراً رئيسياً، إلى جانب دعم أمريكي وفرنسي، في توقيع الحكومة المالية اتفاق سلام مع المتمردين عام 2015 بعد أشهر من مفاوضات شاقة. وشاركت جلّ الحركات التي تمثل الطوارق في الاتفاق، لإنهاء حالة العنف التي بلغت أوجها عام 2012، وأعلن على إثرها المتمردون في إقليم أزواد، شمال مالي، انفصال الإقليم لمدة وجيزة، دون أن ينال أيّ اعتراف.
وساهم اتفاق عام 2015 في تهدئة الوضع، خصوصا إثر اعتراف الحكومة المالية بخصوصية الإقليم الشمالي الذي يقطنه الطوارق، وهم مجموعة عرقية من أصول أمازيغية، فضلاً عن تطبيق اللا مركزية، وتنمية المنطقة الشمالية، والتحقيق في الانتهاكات التي وقعت في الإقليم، والعفو العام عن عدة شخصيات من الطوارق.
ويرى مراقبون جزائريون أن هناك توجهاً مناوئا لبلادهم من خلال القرار المالي الجديد. ويقول زيدان خوليف، أستاذ العلوم السياسية الجزائري، لـ المانيا اليوم عربية “الطغمة العسكرية تريد التنصل من الاتفاق الذي ساهم في تهدئة شمال مالي، وهناك قطعاً أطراف خارجية حركت هذه المجموعة لاتخاذ القرار”.
ويضيف خوليف: “الهدف هو أن تدخل المنطقة في حرب، خاصة بين مالي والجزائر، وأن تشتعل كل الجبهات التي تحيط بهذه الأخيرة، حتى تستمر في توجيه استثماراتها للسلاح بدل التنمية، لأن الجزائر باتت الآن مطالبة بحماية حدودها”.
ومنذ نجاح الانقلاب في مالي عام 2020 على الرئيس المنتخب إبراهيم أبو بكر كيتا، وإعلان تأسيس مجلس عسكري للحكم بشكل مؤقت على يد أسيمي غويتا، تباعدت الجزائر ومالي، خصوصاً على ضوء سياسة خارجية متقلبة لباماكو التي طردت السفير الفرنسي وتقاربت أكثر مع روسيا، لكن إصرار الجيش في مالي على الحسم العسكري للنزاع مع الطوارق كان أكبر أسباب الخلاف.
تضرّر العلاقات المالية-الجزائرية
تأسفت الجزائر رسميا لقرار مالي الأخير، وقالت في بيان لخارجيتها إن سلطات مالي كانت تحضر للقرار “منذ فترة طويلة”، وإنها “تراجعت منذ عامين بشكل شبه كلي عن تنفيذ الاتفاق أو محاولة بعثه، كما شككت في نزاهة الوسطاء الدوليين، وصنفت الموقعين على الاتفاق أنهم قادة إرهابيون”، فضلاً عن لجوئها إلى “مرتزقة دوليين” ومطالبتها بعثة الأمم المتحدة بالانسحاب.
وانتقدت الجزائر تمسك سلطات مالي بـ”الخيار العسكري”، وقالت إنه “التهديد الأول لوحدة الأراضي المالية”، وأنه يحمل بين طياته “بذور حرب أهلية”، و”يهدد السلم والاستقرار الإقليميين”.
لكن التوتر بدأ قبل أسابيع، إذ أدت اجتماعات في الجزائر شاركت فيها قيادات من الطوارق الماليين، إلى تبادل البلدين استدعاء سفيريهما للاحتجاج. مالي اتخذت الخطوة أولاً واستدعت السفير الجزائري يوم 20 ديسمبر/كانون الثاني 2023، للتنديد بالاجتماعات التي “تعقد على أعلى مستوى دون علم السلطات المالية”، و”يشارك فيها أشخاص معادون للحكومة، وحركات اختارت المعسكر الإرهابي”.
وفي الشهر ذاته، زاد استقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للإمام محمود ديكو، الشخصية الدينية والسياسية البارزة، المناوئة للسلطات في باماكو، من التوتر بين حكام مالي والجزائر. ودافع ديكو عن الزيارة، وصرح أن السلطات الانتقالية بدورها كانت مدعوة للاجتماع إلى جانب حركات أزواد، إلّا أن لا أحد غيره حضر اللقاء.
لكن خوليف يرى أن كل ما سيق من مبررات لا يرقى لتأكيد وصف “الأعمال العدائية” التي وردت في بيان باماكو بحق الجزائر، ويقول إن جزءا كبيراً من المعارضة المالية يرفض تأويل السلطات بتدخل جزائري لدعم الطوارق أو غيرهم، وإن بلاده لم تعلن أيّ حرب على مالي، بل هي “ضحية مؤامرة لإشعال المنطقة”.
وعادت الحرب مجدداً في شمال مالي، عام 2023، واتهم المجلس العسكري حركات الطوارق بالتنسيق مع جماعات جهادية أهمها تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين المرتبط بالقاعدة، واستنجد بمجموعة فاغنر الروسية للتقدم في شمال مالي، حيث سيطر على عاصمة الطوارق كيدال، بينما أدى انسحاب بعثة الأمم المتحدة من شمال مالي إلى مزيد من توتر الأجواء.
أيّ علاقة مع الانسحاب من إيكواس؟
لكن تزامن انسحاب مالي وبوريكافاسو والنيجر من منظمة إيكواس، التي تضم 15 دولة، مع البيان المالي بشأن الجزائر أثار عدة أسئلة حول أسبابه. وما يجمع الدول الثلاث هو اشتراكها في موجة الانقلابات التي ضربت أجزاء من إفريقيا، وقد علقت المجموعة مشاركة هذه الدول الثلاث في مؤسساتها، ما يجعل قرار انسحابها منها منتظرا.
ولا يعتقد سليمان الشيخ حمدي أن التوتر مع الجزائر سيذهب لدرجة الحرب أو الاشتباكات المسلحة، لافتاً إلى أن الخلاف مؤقت، خصوصاً أن البلدين تدعمهما روسيا التي لن ترغب بأيّ توتر بينهما.
ويضيف الشيخ حمدي أن الانسحاب من إيكواس “تزامن بالصدفة مع وقف اتفاق السلام، بحكم أن دور مالي ميت في منظمة إيكواس، والعلاقات بينهما متوترة بسبب خروج مالي من الحضن الفرنسي الذي يدعم إيكواس”.
من جانبه يرى زيدان خوليف أن “الانسحاب قرار في محله”، ويقول إنه “يجب إعادة تشكيل هذه المنظمة على أسس صحيحة، أو تشكيل تحالفات جديدة”، متابعا: “عوض أن تهدأ المنطقة، أصبحت إيكواس تتآمر على عدد من دول هذه المنطقة”، في تلميح منه لانتقادات كبيرة موجهة للمنظمة ولأدوارها السياسية والاقتصادية.
ولا تحظى الجزائر بعلاقات قوية مع “إيكواس”، خصوصا أنه رغم الخلاف المالي-الجزائري، فقصر المرادية رفض دعم خطط المنظمة بفرض عقوبات على السلطات العسكرية في مالي والنيجر. وتدرك الجزائر حساسية إبقاء علاقة متوازنة مع البلدين اللذين يتقاسمان معها حدودا برية شاسعة في الجنوب، تحفل بحساسية أمنية بالغة.